جاء في الحديث الصحيح قول سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، والكذب أعظم علامات النفاق، بل لعل جوهر النفاق هو الكذب، أليس المنافق يُظهِر غير ما يُبطِن؟ فيدّعي الإسلام وهو في الحقيقة كاذب، فلا يزال على كفره لم يتحوّل عنه. والكذب من كبائر الذنوب التي تقود إلى النار، فالله عز وجل يقول: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صدّيقًا، وإيّاكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عندالله كذابًا). والصدق هو مطابقة الخبر للواقع، وضده الكذب، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ماهو عليه، لذا كان أعظم الكذب شهادة الزور، وكان كل زيف هو من الكذب، والصدق من مكارم الأخلاق عند كل البشر، كما أن الكذب من الرذائل عند كل البشر، لذا كان الصدق واجبًا لقول الله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، المسلم يكون صادقًا بقلبه، فلا يخالف ظاهره باطنه، فلا يظهِر للناس غير ما يخفيه ممّا يريد أن يفعل بهم، ويكون صادقا بأفعاله، فلا تخالف أقواله أفعاله، أليس ربنا يقول: {يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، والصدق -كما مرّ- يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، فالصادق محبوب عند الله، وعند الناس، والصدق ينجي صاحبه من المهالك في الدنيا والآخرة، والكذب محرم لا يُباح أبدًا في جدٍّ، ولا هزلٍ، وهو لون واحد، يخالف صاحبه به كل الحقائق، وإن ادّعى الناس أن فيه كذبًا أبيضَ، فالكذبُ إن أُبيح منه شيء في حالات، فهو كإباحة الميتة عند الضرورة، والكذبُ في عصرنا أنواع، منه الكذب على الله، حينما يتكلّم أحد في الدّين بغير علم، فينسب بجهله إلى الله ما لم يشرعه، وينسب إلى سيدنا رسول الله ما لم يقله، وهذا اللون من الكذب أخذ مؤخرًا ينتشر، وضرره على المسلمين عظيم. ومن أعظم الكذب شهادة الزّور، وهي لا تقتصر على الشهادة في المحاكم أمام القضاة، لاقتطاع حق مسلم دون وجه حق، بل تتعدّى ذلك إلى كل تزييف يتعمّده أحد لطمس حقيقة، من أجل أن تعم الأوهام. ومن الكذب اليمين الغموس بأن يحلف أحد على شيء مضى أنه حصل أو لم يحصل، والحقيقة على ضد ما حلف عليه، ويعظم إثمها وضررها إذا كانت يمينًا يأخذ بها حقًّا لغيره دون وجه حق، وابحثوا اليوم على صور من هذا ستجدونها تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، وارتادوا المحاكم واسألوا المتقاضين، وسترون من ذلك ما تفزع منه القلوب، ومن الكذب اختلاق القصص والأخبار التي لا أصل لها، سواء أكان المراد بها أضحاك الناس، أو قصد ترقيق قلوبهم لقبول الموعظة، كما يفعل فئة القصاص الذين يخترعون القصص في زماننا من أجل أن ينفروا الناس من المعاصي، فيذكرون أنه حدث كذا وكذا لمحتضر؛ لأنه كان يفعل كذا، وأن مَن يلي غسل الموتى رأى كذا وكذا، ممّا لا نجد له أصلاً يرجع إليه فيه، وقد كانوا في الماضي يضعون الحديث من أجل هذا، ويقولون نكذب للرسول -صلى الله عليه وسلم- لا عليه، وهم ينسبون إليه ما لم يقله. ومن الكذب أن يدّعي الإنسان أنه رأى حدثًا وهو لم يره، فمن أفرى الفرى أن يُري الرجل عينيه ما لم ترَيا، كما جاء في الأثر. ومنه أيضًا ما يدّعى أنه رؤي في المنام، ولأكاذيب الرؤى رجال، اليوم ينتشرون يبشرون الناس برؤى رأوها لهم، فيها لهم خير. ومنه أيضًا تأويل رؤى لا تعتمد على علم، وإنما هي والأوهام سواء. ومن الكذب ما يعمد إليه المشتغلون بالسياسة، ممّا يبررون به أخطاءهم المتعمدة والعظيمة الضرر في أحيان كثيرة، ولعلنا سمعنا من هذا اللون الكثير في هذه الأيام، حيث انتشرت انتفاضات شعوب ضد الظلم الذي يقع عليها. ومن الكذب ما يلجأ إليه مسؤولون، وموظفون عموميون عندما تكثر منهم الأخطاء، أو القصور من تبريرات لا يمدها الواقع بحجة. ومن أضرار الكذب تلك التهم التي تلقى جزافًا عند الاختلاف في قضايا فكرية أو دينية، ممّا يعتبره بعض المختلفين وسيلة للانتصار على الخصم، فيبلغ به الحماس أن يتهم خصمه بما ليس فيه، ممّا يدخل في نطاق البهتان، أو أن ينسب إليه ما لم يفعله، وما لم يقله، ونرى هذه الصور كل يوم، ولا نجد مَن ينهى عن ذلك، فليت خطباء جوامعنا، ووعّاظنا يطرحون مثل هذا في خطبهم ومواعظهم، ينهون عن الكذب، ويبيّنون أضراره، ويحثّون على الصدق، ويوعّون الناس بمنافعه، فهل يفعلون؟ هو ما نرجو، والله ولي التوفيق. ص.ب 35485 جدة 21488 فاكس 6407043 [email protected]