قصيدة النثر هي شكل من أشكال الشعر الأخرى (كالقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة) وتشترك قصيدة النثر مع هذه الأشكال باحتوائها على المقومات الأساسية للشعر من لغة وإيقاع وصورة ومضمون ,لكنها تختلف عنها بحريتها الأوسع في كيفية استخدامها لتلك المقومات وتوظيفها لأنها تبالغ وتتطرف في تفسير مدلولها الفني الاصطلاحي عبر طرق ووسائل جديدة فقصيدة النثر تفسر الايقاع مثلا على انه تكرار لعنصر لغوي او بصري او مضموني وليس الايقاع ضرورة ماجاء من عناصر صوتية عروضية وحسب . ان الشعر بنحو عام يمثل تمردا على اللغة غير ان التمرد يزداد تطرفا ووضوحا في الفاعلية مع قصيدة النثر لانها تمنح الشاعر افقا واسعا جدا من الحرية والتجريب في اختيار التقنيات التعبيرية المناسبة لتمثيل تجربته حتى وان كانت هذه الوسائل من فنون اخرى (القصة ،الرسم،الرواية المسرحية ،السينما) . قصيدة النثر ليست قطيعة تامة مع ماسبقها من قصائد (عمودية ،تفعيلة) لكنها امتداد لهم عبر جسر طويل من التغييرات التي احدثتها هذه القصيدة نفسها في بنية الشعر،والتي تصل بتطرفها الى حدود بعيدة جدا في كثير من الاحيان قد تجعل رؤية طرف البداية من جسر الامتداد ضبابية او غائمة في نظر بعض الدارسين ، وربما معدومة في نظر اخرين ...لكن ذلك الطرف يبقى موجودا لاننا في حال انكاره سننسب قصيدة النثر الى الفراغ او الى ضفة مجهولة توهم كثيرون بانها تقع في الغرب قرب ازهار الشر !! جزء كبير من النقد العربي تحت عقدة الاولية لايزال مشغولا بالبحث في تاريخ هذه القصيدة منقبا عن الشاعرالأول الفذ الذي كتب النص الاول منها، مهملا الجانب الفني الذي يحتاج الى جهد نقدي واسع وعميق يكشف عن خصائصه في النصوص الجيدة من قصيدة النثر وهي نصوص اقل بكثير من عدد النصوص الجيدة التي جاءت بها القصيدة العمودية او قصيدة التفعيلة . فالاستغناء عن الشروط – العروضية خاصة – التي كانت تفرضها هاتان القصيدتان له حسناته الكثيرة ...لكن له سيئاته الاكثر واخطرها انه فتح الباب للعديد من النصوص الرديئة كي تظهر وتنشر بدعوى انها قصائد نثر بينما هي في الحقيقة قصائد شر على الشعر الحديث .. لكن اتقان العروض ليس شرطا لازما لصنع الشعر والشعراء ، غير انه شرط فاضح للكثيرين ممن لم يتقنوا أي شيء من التقنيات الاخرى لصناعة شعرية النص ،لانهم حين تتحرروا من قيد العروض وزالت حجة تذمرهم منه وكتبوا بحرية مايزعمون انه قصائد نثربانت العيوب الاخرى للكتابة عندهم على صعيد اللغة وتراكيبها واختيار مفرداتها ،والصورة ووظائفها واساليب تشكيلها ،والايقاع الداخلي، والرؤى المبثوثة فيها – ان كانت هناك رؤى في مثل هذه القصائد المريضة – ان صح التعبير – ولذلك فان قصيدة النثر تتحول في كثير من الاحيان الى جزيرة يتشبث برمالها المتحركة كثير من الفاشلين ممن غرقوا في البحور الشعرية وامتحانها العروضي لكنهم نجحوا في امتلاكهم موهبة الهذيان اللغوي ومااسهل الهذيان والثرثرة المجانية والنشر .... لكن هذا لايعني أن من امتلك أسرار العروض ونجح في اختبارات الإيقاع الوزني قادر على امتلاك الأسرار الفنية لقصيدة النثر.. ان حاول الكتابة فيها لان هذه القصيدة لاتعطي مفاتيحها بسهولة.....الا لمن كتبها في رؤياه قبل كتابتها في فضاء الورقة .... ان كتابة قصيدة النثر هي امتحان لا يخلو من الصعوبة، بالنسبة للكاتب ان لم يحسن دراسة نماذجها المتميزة وقوانينها الشعرية ،ويتقن لعبتها الفنية، لاسيما انه في لحظة الكتابة يقف في عراء ايقاعي بعد تجرده أو تحرره من سلطة العروض. وانه مطالب بايجاد أرضية ايقاعية بديلة عنه . اذ ان التخلي عن الايقاع الخارجي انما يعني خلق مواجهة اصعب مع فضاء ايقاعي جديد لم تحدد ملامح اشكاله مسبقا, واعني به الايقاع الداخلي, وبالقدر الذي يتيح له الاستقرار تنظيريا على صيغة معينة تفصيلية وثابتة, ينهل منها من شاء التطبيق, فهذا الايقاع مايزال وسيبقى اختيار شكله وادواته امرا ملقى على عاتق الشاعروخصوصياته الفردية في الكتابة الابداعية النابعة من طبيعةالتجربة التي يريد التعبير عنها برؤاه الخاصة للعالم .وتلك المواجهة الصعبة نفسها سوف تنتقل فيما بعد الى المتلقي, لان هذا الاخر سيواجه مسبقا وعلى غير ما يتوقع افق انتظاره الايقاعي مجهولية في الايقاع وطبيعته ونوعية ادواته التي اسست الايقاع الداخلي للقصيدة المرسلة اليه التي لا يمكن اكتشاف ايقاعها الابعد عدة قراءات وتاملات وعلى العكس مما كان يحصل معه واعني المتلقي وقد تعود عليه وهو يواجه قصيدة عمودية او حرة,اذ يمكن اكتشاف الايقاع الخارجي من اول بيت او سطر في القصيدة ومن خلال التعرف على البحروالقافية ,ومن ثم الحصول سريعا على تطمين سريع لافق انتظاره الايقاعي .واذا كانت قصيدة النثر قد تبرأت من الايقاع الخارجي, فان مسؤولية الصورة الفنية فيها قد تضاعفت من اجل التعويض عن نقص الشعرية الناتج عن غياب اهم عناصر توليدها على الصعيد الموسيقي الصوتي ,واعني به الايقاع الخارجي الذي وفر لعصور طويلة شعرية جاهزة لكل من اراد كتابة الشعر...وكثير منه لم يكن سوى نظم لان الايقاع العروضي لوحده لايصنع شعرا ..ولو كان كذلك لأصبحت الفية ابن مالك من معلقات الشعر العربي ..لكنها ظلت محصورة في اطار النظم التعليمي ..ولم يخرجها العروض من ذلك الاطارابدا ..لانها تفتقر الى المقومات الاخرى الرئيسة للشعر وهي الصورة بما فيها من خيال وأحاسيس وما تتضمنه من رؤيا فنية للعالم ،واللغة الشعرية المجازية المكثفة المدهشة وما وراءها من معان خفية ومفارقة ...ووجود مثل هذه المقومات مع الايقاع العروضي بامكانه أن يصنع شعرا ..كما ان وجودها من دون الايقاع العروضي يمكن ان يصنع شعرا ايضا اذا اضيفت اليه ايقاعات اخرى غير عروضية تنهض على تكرار –التكرار هو جوهر الايقاع- عناصر اخرى غير عروضية لغوية او صورية او بصرية اومضمونية ..وربما من دون هذا الايقاع يمكن ان نجد شعرا ايضا في ظل وجود تلك المقومات لوحدها وقد جربت قصيدة النثر الامرين الاخيرين ونجحت في اثبات شعريتها غير العروضية.