عدم الثقة فيما بين الشباب والجماعات السياسية المختلفة بمصر من ناحية، والمجلس العسكري الحاكم من ناحية أخرى، لن يتم الخلاص منها إلاّ بعد أن يتحقق الانتقال إلى المرحلة السياسية التالية في حياة مصر.. ومن الواضح أن المرحلة الانتقالية التي يحكم البلاد خلالها المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد تطول، مع ما يحمله امتداد هذه الفترة الزمنية من مفاجآت، قد لا تكون سارة للعلاقة فيما بين مختلف الأطراف والبلاد.. وحسب الجدول الزمني لنقل السلطة الذي أعلن عنه مؤخرًا، فإن المرحلة الانتقالية الحالية سوف تستمر حتى نهاية العام المقبل 2012م. من مؤشرات عدم الثقة فيما بين المجلس العسكري والأطراف السياسية ما يتم تداوله من رسائل على الإنترنت، يتم عبرها مقارنة ما حدث عام 1952م، عندما تولّى الجيش المصري حينها حكم البلاد، وأعلن أنه سيتم تسليم البلد لسلطات مدنية خلال شهور من قيامه بثورته، وأنه سيتولّى إجراء انتخابات تشريعية.. وعوضًَا عن ذلك استمرت القوات المسلحة المصرية تحكم البلاد وحتى اليوم. بعد قيام ثورة يوليو 1952م، ظهرت صحيفة (المصري) التي كانت تصدر حينها بالعناوين التالية: "الإفراج عن الهضيبي وعودة وجميع المعتقلين - حل مجلس الثورة يوم 24 يوليو وتسليم البلاد لممثلي الشعب - السماح بقيام الأحزاب - مجلس الثورة لا يؤلّف حزبًا - رئيس الجمهورية تنتخبه الجمعية التأسيسية - لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا تتأثر حرية الانتخابات - تشكيل حكومة مدنية محايدة تجري الانتخابات".. في 24 يناير 1954م صدر قرار من مجلس قيادة الثورة ينص على: "قرر مجلس قيادة الثورة حل جماعة الإخوان المسلمين، وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين حزبًا سياسيًّا، ويطبّق عليها أمر مجلس قيادة الثورة الخاص بحل الأحزاب السياسية"، وصدرت جريدة (الأخبار) بعناوين تقول: "عبدالناصر يُحذِّر من قوى الثورة المضادة - قوى الشعب التي لها مصلحة في الثورة من حقها أن تتكلم وتنتقد - يجب على الجبهة الداخلية أن تتحرك كلها إلى مناضلين للثورة ولأهداف الثورة - الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقية هي عمل وفرصة متكافئة لكل عامل وفلاح وطالب".. وحملت (الأهرام) العناوين التالية: "محاكمة مَن استغلوا نفوذهم وأفسدوا الحياة السياسية - حرمانهم من الجنسية والحقوق السياسية والوظائف العامة وإلزامهم برد أموال الأمة - وقف التطهير في عشرة يناير واستمراره في الجامعة الأزهرية إلى آخر يناير". في العاشر من فبراير 1953م صدر "إعلان دستوري من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش" يوضح الأحكام التي سيتم بموجبها إدارة البلاد أثناء الفترة الانتقالية، ويقول في مادته الثانية إن: "السيادة العليا لمجلس القيادة - يتولّى قائد الثورة أعمال السيادة العليا وبصفة خاصة التدابير التي يراها ضرورية لحماية هذه الثورة والنظام القائم عليها لتحقيق أهدافها وحق تعيين الوزراء وعزلهم".. وفي 14 نوفمبر 1954م صدر عن "مجلس قيادة الثورة" قرار من مادتين كالتالي: "المادة الأولى: يُعفى الرئيس اللواء محمد نجيب من جميع المناصب التي يشغلها، على أن يبقى منصب رياسة الجمهورية شاغرًا - المادة الثانية: يستمر مجلس قيادة الثورة بقيادة السيد الرئيس البكباشي جمال عبدالناصر حسين في تولّي كافة سلطاته الحالية".. وتواصل حكم العسكر لمصر منذ ذلك الوقت حتى اليوم. عدم الثقة فيما بين شباب الثورة (التي حدثت هذه السنة) والقوى السياسية الأخرى تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة برز بوضوح عبر الحوار والجدل الذي دار لساعات طويلة خلال اللقاء الأخير (يوم السبت الماضي) فيما بين الطرفين، والذي تولّى الرجل الثاني في المجلس العسكري (رئيس الأركان - سامي عنان) رئاسته، وأدّى إلى تفاهم قال عنه تحليل نشرته وكالة (شينخوا) الصينية أنه أثار: "تساؤلات حول مدى فعاليتها (أي القرارات التي صدرت عن اللقاء) في تصحيح مسار الفترة الانتقالية، وتلبية مطالب الشارع السياسي". من أبرز ما اتفق عليه في ذلك اللقاء موافقة المجلس العسكري على تعديل المادة الخامسة من قانون الانتخابات المثير للجدل، حيث تنص المادة على انتخاب ثلثي نواب البرلمان، وفقًا لنظام القائمة الحزبية، والثلث وفقًا للنظام الفردي، وعدم السماح للأفراد الذين يفوزون حسب هذا النظام بالالتحاق بأي حزب.. وسيؤدي التعديل المقترح، متى ما أجيز، إلى إلغاء ترشيح الأفراد لأنفسهم لدخول مجلس الشعب، وتوجههم إلى الأحزاب للترشيح عبر القوائم الحزبية. من أكثر الأمور حساسية فيما بحث خلال اللقاء مع سامي عنان كان مطالبة القوى السياسية بإصدار تشريع لحرمان أعضاء وقيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي.. ومثل هذا الأمر سيكون خطيرًا ومعطّلاً للمسيرة السياسية في مصر إن لم توضع له ضوابط لا تؤدّي إلى تطبيق الحرمان على كل من التحق بالحزب الوطني، أي أن لا يتكرر ما حدث في العراق حين أقر نظام بعدم مشاركة أعضاء حزب البعث المنحل في الحياة السياسية، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة، وأدّى إلى فوضى دموية، وفساد إداري لازال العراق يعاني منه حتى اليوم.. فالذين التحقوا بالحزب الوطني سابقًا يجب أن يتم تقييم أداء كل فرد منهم على حدة، ويوضع قانون يتيح محاسبة كل مسيء على أفعاله، وذلك عبر القضاء، ولا يجري حرمان كل من انتمى إلى الحزب، وهم بالملايين، ولا اعتبار كل مَن تولّى منصبًا في الدولة مذنبًا بقبوله الانتماء إلى الحزب الوطني، بل يجري تقييم الناس على أفعالهم، ومحاسبتهم عليها، وعدم حرمان البلاد من كفاءات وخبرات تتوفر الآن في أجهزة الدولة، وإلاّ أدّى الأمر إلى إحداث فراغ، كما حدث في العراق، سيملأه بالتأكيد الشيطان، وأعوانه الذين تولّوا إفساد النظام السياسي بشكل بشع في عراق اليوم. الجدول الزمني الأوّلي الذي وضع لانتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين يشير إلى أن أول جلسة لمجلس الشعب ستتم بالتزامن مع الذكرى الأولى لثورة يناير، أي في الخامس والعشرين من يناير المقبل، وتليها الجلسة الأولى لمجلس الشورى في 17 مارس، ويتم أواخر الشهر نفسه (مارس) عقد جلسة مشتركة لمجلسي الشعب والشورى، يتم خلالها انتخاب هيئة دستورية تتولّى مهمة إعداد مسودة الدستور الجديد، والذي سيعلن على الشعب، ثم يوضع في استفتاء خلال ستين يومًا من اكتمال إعداده.. ممّا يشير إلى أن المجلس العسكري سيظل يشرف على أمور البلاد حتى يتم اكتمال التشكيلة المدنية الحاكمة للبلاد، بانتخاب رئيس للجمهورية بعد إعلان الدستور، والاستفتاء عليه بنهاية العام المقبل، أو أوائل العام الذي يليه. ص . ب: 2048 جدة 21452