مرت أكثر من 100 يوم على عمليات القصف الجوي لحلف الناتو على ليبيا بحجة حماية المدنيين، لتصبح بذلك أطول حرب جوية لقوات حلف شمال الاطلسي منذ تدخلها في كوسوفو عام 1999، بل حرب تختلق أزمة تستحق التأمل وإعادة النظر حول أهدافها وإستراتيجيتها. على أرض الواقع وحسب المعطيات الحالية، فإن قوات الناتو أصبحت من ناحية المبدأ مشتتة ما بين حماية المدنيين ودعم الثوار .. كما أن سلسلة من الضربات الجوية لطائرات حلف شمال الاطلسي قد أخطأت أهدافها متسببة في قتل المدنيين الذين من المفترض أن حلف الناتو أتى لحمايتهم, حيث اعترف قائد عمليات الناتو في حرب ليبيا الجنرال الكندي شارل بوشار في وقت سابق بقتل مدنيين ب''الخطأ'' وتأسف على سقوط ضحايا من مدنيين أبرياء. وبالنسبة للولايات المتحدة والتي تصنف كأقوى جبهة عسكرية, والتي من الممكن أن يساعد تدخلها في وضع حل أسرع للنزاع في ليبيا, إلا أن الكونجرس صّوت الأسبوع الماضي بأغلبية ساحقة ضد منح الرئيس أوباما مزيدا من الصلاحيات لخوض حرب ضد ليبيا. وهو مايدل على أن واشنطن تتخوف من الانزلاق والالتزام في حرب قد تكون مفتوحة الأجل والتي من الممكن أن تتدهور إلى حرب أهلية وصراعات معقدة ما بين القذافي والثوار وأطراف داخلية أخرى قد تظهر مع الوقت بحثاً عن السلطة. ومن الواضح جداً أن هناك انقساماً داخل حلف الناتو, حيث تسبب قتل المدنيين بالخطأ في إدانة بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي لتلك العمليات, وبالفعل قررت النرويج إنهاء مشاركتها في الحرب على ليبيا, بينما أعلنت إيطاليا عن التفكير في إنهاء الحرب وفسح المجال أمام الحل الدبلوماسي. أما في بريطانيا فقد نقلت صحيفة الغارديان أنباء منقولة عن مسئولين بريطانيين أنه من الصعب تحقيق انتصار عسكري من خلال القصف الجوي على ليبيا, كما قالت أن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية حذر من إستمرار الصراع في ليبيا والذي قد يؤدي إلى إنهيار التحالف الأطلسي وزيادة الضحايا من المدنيين بالإضافة لإحتمالية انتقال القتال إلى تونس المجاورة. أما على الطرف الآخر, مازال العقيد معمر القذافي صامداً أمام أكثر من عشرة آلاف غارة جوية حتى اللحظة ومكبداً حلف الناتو خسائر مادية ضخمة تنذر باحتمالية توقف هذه العمليات وتحول الأوضاع نحو منحى آخر أكثر تعقيداً. ومسألة صمود القذافي كانت من وجهة نظر شخصية متوقعة مسبقاً, وذلك لأن الكثيرين لم يلتفتوا لحجم المصالح الإقتصادية والسياسية التي بناها القذافي في محيطه الأفريقي منذ إدانة ليبيا في قضية لوكيربي وفرض عقوبات الحظر الجوي والإقتصادي عليها في مارس 1992 والتي امتدت لعشر سنوات. وفي فترة الحصار الدولي على القذافي, كانت توجهاته منصبة على دعم الدول الأفريقية في محاولة منه لخلق بدائل تدعم بقاءه إقتصادياً وسياسياً, وبالتأكيد نجحت توجهاته ومساعيه في تحقيق أهداف قد تكون أحد أهم العوامل التي دعمت صموده حتى هذه اللحظة. وقد أشارت عدة تقارير عن مدى قوة إستراتيجية القذافي الإقتصادية في أفريقيا, ولعل من أهم تلك التقارير ما نشره موقع غلوبال للأبحاث في 24 أبريل 2011 نقلاً عن صحيفة المانفستو الإيطالية ووصف فيه حجم المصالح الإقتصادية التي بناها القذافي مع العديد من الدول الأفريقية, ومن أهم ما ذكر في التقرير هو أن أموال الثروة السيادية لسلطة الاستثمار الليبية تصل إلى مئة وخمسين مليار دولار ومن الممكن أن يكون الرقم أكبر من ذلك أيضاً, وأن هذه الثروة الضخمة لعبت دوراً مؤثراً في أفريقيا, حيث أن شركة الاستثمار العربية-الأفريقية الليبية كانت قد استثمرت في أكثر من خمسةٍ وعشرين بلداً أفريقياً، اثنان وعشرون منها جنوبي الصحراء الكبرى. ولعبت الاستثمارات الليبية دوراً حاسماً في إطلاق مشروع “راسكوم” أول شبكة اتصالات فضائية لأفريقيا تمد العديد من المناطق الريفية في أفريقيا بالبث التلفزيوني والاتصال بالإنترنت، وقد وفر هذا المشروع لأفريقيا مئات الملايين من الدولارات بسبب إستقلالها عن شبكات الفضاء الأمريكية والأوروبية. ومن أهم الإستثمارات الليبية في أفريقيا أيضاً, مشروع إطلاق ثلاث مؤسسات مالية للاتحاد الأفريقي: بنك الاستثمار الأفريقي،، وصندوق النقد الأفريقي، والبنك المركزي الأفريقي. وأوضح التقرير بأن تطور هذه الهيئات المالية كان سيمكن البلدان الأفريقية من التحرر من سيطرة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أداتي الهيمنة الاستعمارية الجديدة، وكان سيعني بداية نهاية “الفرنك الأفريقي”، العملة التي تجبر أربع عشرة مستعمرة فرنسية سابقة على استعمالها والذي تضمنه وزارة المالية الفرنسية، وسعر صرفه ثابت مقابل الفرنك الفرنسي سابقاً واليورو حالياً. ولذلك فإن العمليات العسكرية التي يقودها حلف الناتو بالتأكيد لن تحشد دعماً واضحاً من الدول الأفريقية, حتى وإن كان بعض رؤساء الدول الأفريقية قد أقروا ببشاعة نظام القذافي وفقدانه لشرعيته لكن التوجه العام للأفارقة هو إيجاد حلول دبلوماسية وسلمية بين الأطراف المتنازعة في ليبيا وهو ما يعزز مدى رغبتها في الحفاظ على الدعم الليبي ومصالحها الإقتصادية. الخروج من المأزق الحالي قد يتطلب تدخلاً أمريكياً يوازي الظفر برأس القذافي إذا رغب الناتو في تحقيق انتصار أسرع, أو وقف العمليات العسكرية فوراً وبدء الشروع في الحلول الدبلوماسية, وقد يكون دعم المبادرات الأفريقية أحد الحلول المنطقية. إن خطورة المشهد الحالي تكمن في أن هناك أطرافا أخرى عديدة اقتحمت الأزمة الليبية لتستفيد من تأجيج الصراع أو تستفيد من الإبقاء على الزعيم معمر القذافي, والذي دأب على جعل ميزانية دولته وقوت شعبه أوكازيوناً مفتوحاً للغرب والشرق ليدفع منها ثمن سلسلة متكررة من الأخطاء والجرائم التي اقترفها بحق شعبه والعالم. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (89) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain