(1) لم يكن إدوين موير إلا صادقا عندما قال ذات تجلٍ روائي بأن»الرواية هي صورة الحياة»,ولم تخذل فورستر الحقيقة عندما زعم بأن»شخصيات الرواية الخالصة على الورق,هي شخصياتنا في الحياة»..ومن أبرز شواهد هذه الأقوال النافذة ذلك الاتساق العجيب بين تداعيات الحياة الناضجة المفعمة بالخصب والفعل والبهجة,وتجليات عناصر السرد في الرواية الخالصة..فعندما تتجاوز الرواية الخالصة صيغ السرد التقليدية المعتمدة على هيمنة صوت البطل أو الشخصية الرئيسة,لإقامة بنية حوارية متعددة الأصوات,فإن تلك التعددية في صيغ الحياة وأصوات شخصياتها تعد سمة مؤثرة في بناء المجتمع عامة بشروط اللحظة الابداعية الحضارية الراهنة! (2) ..دعونا نقارب هذا الاتساق بين الرواية الفنية والحياة الطبيعية,من خلال تجليات شخصية ما داخل عالمها الواقعي,فالرواية الخالصة تجاوزت نمط السرد التقليدي,الذي يتكفل به راوٍ عليم,تنبثق منه كل مشاريع البناء الروائي-بعناصره ودلالاته- لسارد فاعل,تمثله الشخصية(الفاعلة)داخل العمل السردي,والتي تتسامح برقي فني مع علو أصوات أخرى لشخصيات متنوعة داخل الرواية,لنسج مشهد حواري تعددي,يتوافر على أفكار ورؤى وصيغ شتى. وكذلك الشأن لدى الانسان الحديث-في رحلته الأثيرة صوب دروب الحياة المستحقة والحضارة المنتظرة-فهو لايرتهن مستسلما واهنا لسارد غيبي عليم,يكتب كل تفاصيل حكايته مع الحياة والواقع والناس والأشياء,لأنه يثق في قدرة ذاته على صياغة حياته بألوانه الخاصة,في اللحظة التي لايجعل من ذاته وحدها مصدرا للحقيقة والفعل,بل نجده يتألق في اختيار الشخصيات حوله,بحيث تتوافر على نسب عالية من ثراء فكري يستفز طاقاته العقلية,ونزعات حوارية تفجر رغباته المؤكدة في الحوار والاختلاف,وأنماط متحولة متغيرة تستجيب لكوامنه الراغبة في التحولات,بعيدا عن محاولة الاقتراب من تلك الشخصيات الساكنة المسطحة التي تكتفي بتقديم نمط واحد(فقط)من أنماط الشخصية البشرية بتوحد سكوني ممل رتيب. الانسان الخالص-انسان الحياة والحضارة والعطاء..انسان الثراء الحسي والمعنوي- مفعم بالتحولات,لايكل من البحث عن شخصيات التغيير,زاخر بأنماط بوليفونية متنوعة للشخصية الانسانية في أوج ثرائها وازدهارها وتألقها,ولا يمل من استجداء الشخصيات الشمولية المعقدة(وليست المسطحة)الزاخرة برؤى وأنساق وصيغ ودلالات شتى,لتشاركه رحلته المبهجة في الحياة..عبر شروطه المختلفة الخاصة..فحسب. (3) والمكان في السرد الفني الحقيقي يكتسب قيمته من ذاته,من ألوانه وأصدائه وروائحه وطقوسه وموجوداته,التي لاتشبه غيرها,والتي تتفاعل بحميمية آسرة مع سمات الشخصيات الكائنة فيه.. وكذلك تكون علاقة انسان الدهشة والبهجة والابداع مع الأمكنة,إذ نجده يجد في بناء مكانه الخاص بشروطه الخاصة,التي تنسجم مع أنساغ جسده القصية,واصواته الداخلية الصاخبة,فيكتسب المكان بتلك الروح الانسانية الخالصة هوية,يختلف بها عن بقية الفضاءات القريبة والبعيدة معا..مكان كأحد فضاءات(سمرقند) في رواية(سمرقند)لأمين معلوف,أو كأحد المجالس التي كانت ترتادها خاتم في رواية(خاتم)للروائية المحلية المبدعة رجاء عالم. كما تتجلى علاقة انسان(الحداثة والتحولات والبهجة)بالمكان,من خلال هجسه الدائم باقتراف فتنة المغامرة بحثا عن مكان جديد,وفضاء بكر في حاجة للكشف والفض والولوج!..هل يمكن أن نزعم بأن الشخصيات المفتونة بالارتحال عبر بلاد الله القصية شخصيات مفعمة بالحياة والتوهج والنجاحات..بضرورة الشرط؟..أظن ذلك كذلك بالفعل! (4) أما الزمن في الأعمال الروائية الحقيقة فهو زمن يتحرر من إطاره الواقعي دائما,لإنتاج زمن فني مغاير,لايسير على تراتبية الزمن المألوف,ماضيا ثم حاضرا ثم مستقبلا!بل هو زمن يلج بأقصى مداه في أغوار الشخصية التي تعيش لحظاته باستغراق فاتن..الشخصية إياها التي تعيش حاضرها بأجمل إسقاطات ماضيها,واستشرافات مستقبلها,فيعود الماضي حاضرا,والحاضر ماضيا..وهكذا,في تداخل زمني معقد يعيشه الانسان معا في اللحظة ذاتها...زمن كزمن مارسيل بروست في رواية(البحث عن الزمن الضائع),أو زمن جيمس جويس في روايته الخرافية(يوليسيس). وكذلك هو الانسان الجديد(انسان التحولات المدهشة)لايرتهن إلى زمن تراتبي يأسره,بل إنه يعيش لحظته الحاضرة بكل زخمها وعالميتها وصخبها,حتى تستطيع هذه اللحظة الصاخبة استيعاب كل طاقاته الذهنية والحسية والروحية التي تتقد في كل لحظة..في كل ساعة..في كل يوم مفعمة بكل شئ(مفاجآت ومعارف وتجارب وخبرات وعطاءات) لكأنها في كل مرة زمن يمتد طويلا..دائريا وعموديا,وفي كل اتجاه..إلى آخر مدى. كما ان علاقة ذلك الانسان بالزمن تتجلى في سعيه المؤرق نحو خلق أزمان جديدة أبدا,تتوافر على(مفاجآت ومعارف وتجارب وخبرات وعطاءات)أخرى,فتداعيات اليوم ليست هي تداعيات الأمس,وتداعيات الغد يجب أن تختلف عن تداعيات الحاضر..في رحلة مديدة تتنصل من رفقة الشخصيات السكونية التي لاتؤثر أو تتأثر بأحداث الزمن,والتي تظل على وتيرة مستقرة من البداية,وحتى نهاية الحكاية..نهاية الحياة,لتحتفي بصحبة الشخصيات(الحية)..الخالصة,التي تتفاعل على الدوام مع علامات الزمن بمتغيراته وضروراته وعلاقاته,فتقيم علاقات صحيحة بالضرورة مع قيم الماضي وإمكانات الحاضر وتوقعات المستقبل.. (5) ثمة علاقة تماثل حقيقي بين تداعيات الحياة الناضجة بالخصب والفعل والبهجة والتحولات,وتجليات عناصر السرد في الرواية الناضجة بقيمها الفنية الحوارية المتحولة..قاربناها سويا من خلال نموذج الشخصية بين الحياة والرواية.. أين يمكن أن تجد شخصيتك الحقيقية في تلك المقاربة(الانساروائية)؟! [email protected]