وأنا أُعِد لكتابة سلسلة مقالات تعالج ظاهرة الفقر بدا لي: أن الفقر في المعلومات الصحيحة عن الفقر، والفقر أيضًا في الدراسات التي تعالجه في بلادنا اقتصاديًا واجتماعيًا أكبر خطرًا من الفقر ذاته، وهذه دعوة أطرحها في مقدمة مقالتي هذه للالتفات لهذه الظاهرة بالدراسة الواعية، والمبادرة بعقد المؤتمرات العلمية المتخصصة في دراستها ورفع التوصيات العاجلة إلى قيادتنا لاتخاذ التدابير النظامية لوأدها. ثم أعود لما كنت فيه منذ أسبوعين وهو الحديث عن معالم البيئة المناسبة لحياة جرثومة الفقر وتكاثرها في بلادنا، فأقول إن ثاني هذه المعالم هو غياب البيت عن دور الإنتاجية الاقتصادية في المجتمع، وهي آفة أوجدها العديد من العوامل ليس في بلادنا وحسب بل في معظم بلاد العالم، فقد كان لإنتاج البيت معظمَ متطلبات حياته من طعام وشراب ولباس وأثاث آثار كبيرة جدا على الاقتصاد وعلى كل ما يؤثر في الاقتصاد من أخلاق وعادات وتقاليد. فمن جهة اقتصادية كان البيت يقلل بإنتاجيته الحاجة إلى استخدام النقد من جهة أن الأسرة تقوم بإنتاج معظم ما تحتاجه من مواد استهلاكية، وأحيانًا كثيرة كانت الأسرة تمتلك مصادر المواد الخام التي تحتاجها عملية الإنتاج كالمواشي والدواجن والمساحات الزراعية الصغيرة التي تفي بإنتاج متطلبات الأسرة، وفي حال عدم قدرة الأسرة إلى إنتاج سلعة ما أو عدم تملكها لمصادر إنتاجها فإنها تقوم بمقايضة منتجاتها مع أسر منتجة أخرى، وبذلك لا تكون بحاجة إلى استخدام الوسيط النقدي إلا في القليل من الحالات، وهذا الأمر مؤثر كبير في محافظة العملة النقدية على قوتها الشرائية، وهذا ما يُفسر لنا قُدرة الريال الواحد -مثال للعملة النقدية - قبل أربعين سنة على الوفاء بقيمة عدد من الحاجيات لا يشكل اليوم نصف قيمة أحدها. كما كان الإنتاج البيتي يجعل الأسرة هي المتحكمة في فرض العادات الاستهلاكية على أبنائها وبالتالي تكون تلك العادات في المجتمع بأسره صناعة محلية محضة ولا يخفى على أحد أثر العادات الاستهلاكية على مجموع الأخلاق والعادات والتقاليد وأثر كل ذلك في الحركة الاقتصادية بشكل عام. الذي يحدث اليوم أن البيت غائب عن الإنتاج وهو مشترٍ لكل ما يحتاجه ولهذا نجده محتاجًا إلى الوسيط النقدي في كل جرعة ماء يشربها وفي كل لقمة طعام يأكلها فضلًا عن لباسه وأثاثه، وهذا الطلب المكثف على العملة جعلها عالية القيمة جدا، ونستطيع أن نتعرف على قيمة العملة الحقيقية بمعرفة ما يمكن استبدالها به من سلع، فالسلعة هي القيمة الحقيقية للعملة، فكلما كانت العملة غالية ظهر عجزها أمام السلع المستهلكة وكلما كانت رخيصة ظهرت قوتها أمام السلع، وإذا كان هذا الكلام خلاف المتعارف عليه فذلك لأن العرف الجاري هو تقييم العملات بعملات أخر لكننا حين نُقَيمُها بالسلع نصل حتمًا إلى هذه النتيجة. ويزيد من ضعف العملة أمام السلع المنتجة خارج البيت كون من حل محل البيت في الإنتاج شركات عالمية بعيدة جدًا عن البيت المستهلك الأمر الذي حَتَّم وجود العديد من الوسطاء بين المنتج والمستهلك وهو ما يجعل عبء تكلفة هذه الوساطة زائدًا في قيمة السلعة. وثقافة الاستهلاك يفرضها دائمًا من بيده الإنتاج، وحين تنحى البيت عن هذه المهمة أو نُحِّي عنها حلت الشركات العالمية المنتجة محله، وأصبحت تتسابق في ابتكار السلع، أو تطوير شكل السلعة الواحدة وصناعة مشتقات منها وابتكار فنون من الدعاية للمنتجات الجديدة، وأصبحت مهمة البيوت هي التسابق على اقتناء تلك المنتجات للرفاهية في بداية الأمر ثم لا تلبث أن يصبح وجودها عادة استهلاكية تصل بها إلى حد الضرورة. هذه البيئة مناسبة جدا لتغذية جرثومة الفقر فهي بيئة لا حد فيها للغلاء وبذلك لا تبشر أبدا بتوقف نشوء المجتمعات الفقيرة التي يتصاحب تكونها عادة مع الغلاء وكثرة الاستهلاك. الحلول التقليدية للغلاء تنصب عادة على فرض معونات على السلع الضرورية أو رفع إعانات الفقراء ورواتب الموظفين، وهي حلول ثبت بما لا يدع مجالًا للشك عدم نجاحها بل ارتدادها على الفقراء بشكل يجعل الأمر أشد ضررًا من حال عدمها. وقد يظن البعض أنني أدعو إلى محال وهو إلغاء المجتمع المتمدن والعودة إلى المجتمع القروي أو البدوي، وهذا القول على فرض وجوده ناشي عن فهم خاطئ للمدنية ينبغي مراجعته. إنما أدعو إلى عودة البيت للإنتاج قرويًا كان أم مدنيًا، وإلا فإن قطار الرأسمالية السريع سوف يلقي بالكثيرين كل يوم إلى مهالك الفقر بينما يظل متجهًا بمن معه نحو الهاوية.