إلى جانب الحواس الخمس: النظر، السمع، الذوق، الشم، اللمس، هناك حاسة سادسة (الحدس) لا تعمل بنفس طريقة أخواتها، وعلى الرغم من أنها ظاهرة ومؤكدة بالخبرات إلاّ أن العلم يستبعدها دون أن ينفيها، لأن لا سبيل له للتعامل معها بمناهجه. خبرات كثيرة تؤكدها، مثل التخاطر عن بُعد، كأن يقع طارئ لشخص يشعر به آخر بعيدًا عنه بمئات الأميال. ومثل الإحساس بأحداث لم تقع بعد، أو الأحلام التي تصدق، والأمثلة كثيرة.. إنه أمر في غاية الأهمية أن يقف العلم أمام ظاهرة ويقول لنا بأنه لا يعرف، فبهذا الاعتراف نكتشف نحن البشر أننا في سجن! يقوم العلم على ثلاثة مبادئ أساسية: المكان والزمان وقانون السببية (السبب والنتيجة)، جميعها قابلة للقياس وبالتالي للتجريب، وبالتجارب تكتشف حقائق العلم. المكان والزمان يؤسسان لقوانين الحركة، بينما يتعامل قانون السببية مع القوة والفعل، وبالقوة والحركة تتوالى التغيرات بين الفاعل والمنفعل بنظام يرتبه العقل بشكل يمكن تفهمه، هذا النظام هو العلم، الذي تصلنا مدخلاته عن طريق الحواس الخمس.. وجرى استبعاد الحاسة السادسة رغم أنها تقدم مدخلات مؤكدة، لأنه لا يمكن التعامل معها في إطار مبادئ المكان والزمان وقانون السببية. السجن هو كل مكان محدود يضع قيودًا على الإرادة، وهذا الكون المادي محدود وقوانينه المقيدة كثيرة، والعلم إحدى وسائل الإرادة لتقليص الإحساس بالمحدودية والقيود، دون التغلب عليهما، فالسجن يجب أن يظل إلى الأبد سجنًا بضيقه (محدودية موارده) وأغلاله (قوانين الطبيعة). الأدهى والأدعى للسخرية أن لا أحد مدرك أنه في سجن، من أين لمَن يُولدون ويموتون في السجن أن يعرفوا بأنهم سجناء؟ هذا نوع من الجهل لا تزيله علوم الطبيعة، وإن لم تدرك أنك في سجن فلن تسعى للتحرر منه.. يحتاج السجين إلى ثقب في جدار سجنه لكي يدرك أنه كذلك، ثقب مبصر يتوافر في حالتين: حالة الحاسة السادسة وما يشبهها من خوارق تنتظمها قوانين أعلى من قوانين الطبيعة التي نعرفها. وحالة الإحساس بالعبثية، عندما ينتبه السجين بأن أحداث السجن لا تقدم رواية مقنعة ذات معنى ومغزى يمكن تفهمه، وأن ثمة شيئًا جوهريًّا ينقصها راجع إلى عدم تطابقها مع معايير المثل العليا: الحق والخير والجمال.. فجميعها معانٍ مجلوبة من خارج أسوار السجن، ليس من طبيعة السجن، ولا عمله توليدها في أذهان سجنائه، أو تجسيدها في وقائعه. ومحدودية الموارد لا بد وأن يتبعها صراع، والصراع يتبعه البؤس والظلم وكل مشوهات المثل العليا، هو ليس سجنًا ضيقًا وحسب، بل وقبيح أيضًا، مشوّه بنوازع وشهوات السجناء. أما مسارب الفكاك منه فمغلقة بمغاليق الجهل. [email protected]