قراءة في قصة (أكثر وضوحًا في الظلام) تطرح قصة (أكثر وضوحًا في الظلام) لفالح العنزي لحظة الوقوف على خط التماس بين مصيرين. في لحظة اختلط فيها اليقين بالشك، والخوف بالارتباك، يودّع البطل حبيبته إلى مثواها الأخير. وإذ تبدو القصة مغلقة على حدث واحد منجز منذ بداية القصة، فإنّ بنية القصّة معنية بتقديم المتضادات وكشف أزمة الإنسان معها. وأهم هذه المتضادات مفارقة الحضور الاستثنائي للونين الأبيض والأسود. والقصة لا تقدمهما على أنهما ثنائية لازمة، بل على أنهما ضدية متنافرة. فلا حضور لأحدها إلا بغياب الآخر. ومنذ البدء يصطدم المتلقي بالحضور الطاغي للون الأسود المتمثل في العلامات السيميائية الدالة بتنويعات مختلفة، منها (كرسي أسود، الأماكن المظلمة، الغطاء، النوم، الظلام، وغيرها)، فهذه الدوال تحضر وتهيمن على القصة بدءًا من العنوان وانتهاءً بانتشار السواد في أعماق البطل، إشارة إلى حزنه وتحميل نفسه خطيئة موت حبيبته. تتناص القصة مع قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل (ضد من)، حيث يحتفي الشاعر باللون الأبيض وهو على فراش الموت: في غُرَفِ العمليات، كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ، لونُ المعاطفِ أبيض، تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات، الملاءاتُ، لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن، قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ، كوبُ اللَّبن، كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ. كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ! فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ.. بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟ هل لأنَّ السوادْ.. هو لونُ النجاة من الموتِ، لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ، *** ضِدُّ منْ.؟ ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ – اطْمأَنْ؟! *** بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء.. الذينَ يرون سريريَ قبرا وحياتيَ.. دهرا وأرى في العيونِ العَميقةِ لونَ الحقيقةِ لونَ تُرابِ الوطنْ! لقد استشرف الشاعر أن اللون الأبيض هو مقدمة للموت، بينما اللون الأسود هو أمد أطول في الحياة لذلك يتشبث به الآخرون رغم قتامته. وهي مفارقة صنعها الفن، حيث لا تقوم في هذه القصيدة وكذلك في القصة ثنائية للونين الأبيض والأسود، بل حضور أحدهما يلغي الآخر. وهي لعبة المتضادات التي عبر عنها دريدا في منهجه التفكيكي من أن العالم لا تحكمه الثنائيات، بل المتضادات. فلا حضور للأبيض إلا بغياب الأسود، والعكس الصحيح. ويصح ذلك على أشياء كثيرة فلا يعرف النور بنوره إلا إذا حل الظلام. فبين حضور وغياب تتأس كينونتهما، إذ لا يجتمع نور وظلام، بل غياب أحدهما يستدعي بالضرورة حضور الآخر. وإذا كان اللون الأسود في القصيدة هو رمزًا لاستمرار الحياة، فإن القصة تقدم وصفًا لحضور اللون الأسود قوامه تعاسة الحياة السوداء في غياب من يؤنسها. فالرحيل اختص بالأبيض الذي يناقض غيابه الحياة. هذه المواضعات تجعل العلاقة بين الأبيض والأسود علاقة ثقافية شكلها العرف والمزاج العام. وإذا كانت قصيدة أمل دنقل قد قدمت التساؤل عن هذه العلاقة الملتبسة، فإن القصة جنبت السؤال وقدمت الحالة بكل ما فيها من تجربة إنسانية مؤلمة، فموت الحبيبة يعني الشعور بأن (السواد أحكم قبضته على سائر جسده، أشعره بالضعف وقلة الحيلة، زلزل الخوف والرهبة كيانه، نظر إلى ثوبه الأبيض، أعتقد أن ما بجسمه من سواد أكبر من أن يواريه أي لباس أو أي ساتر). قدمت القصة ثيمة التنافر بين الأبيض والأسود بلغة متماسكة، ومؤثرة، ودالة. وإذا كانت القصة قد أسست حدثها من الأسطر الأولى، فإنها نجحت في إبقاء المعنى محمولًا على احتمالات التأويل عندما خرجت من حرفية الحدث أو موت الحبيبة إلى المعنى الوجودي للفقد الإنساني وما يعنيه من دلالة الغياب. [email protected]