إنّ من الغرائب محاكمة الصحافة لما تقوم به من دور رقابي على المؤسسات الحكومية، أو الأهلية، والأجهزة كلّها سواء أكانت تنفيذية، أم تشريعية، أم قضائية، وهو الدور المعترف به للصحافة في سائر دول العالم، ومنع الصحف أن تقوم بهذا الدور هو اعتداء على أهم الحريات الأساسية، ألا وهي حرية التعبير، وما تنشره الصحف عن القضاء مثلاً يتنوّع، وجلّه مشروع، لا يؤثر على مجريات التقاضي أمام المحاكم، ففي الصحف في كل البلدان زوايا لأخبار المحاكم ثابتة، تتابع فيها أهم القضايا التي تُفرض على المحاكم، وما يجري من مرافعات، وتنشر ما يصدر عنها من أحكام، فالقضاء في الأصل علني لا سري، يسمح فيه للناس بحضور المحاكمات، ونشر مثل هذه الأخبار يعضد ما يقوم به القضاء من دور مهم في إحقاق الحق، وإنصاف المظلوم، وأمّا بعد صدور الأحكام وفق ما اعتمدت عليه من أدلة وقرائن، فقد يناقشها المختصون من محامين، أو أساتذة متخصصين في الأحكام، وقد يوجّه إلى شيء من هذا نقد، ولا يضير ذلك القضاء، بل يساعده في تصويب ما يصدر منه مستقبلاً، ولا يمنع من النشر إلاَّ ما قد يظن أنه يؤثر على القاضي حين نظر القضية، وقضاتنا الأفاضل ليسوا من هذا النوع، فتأثرهم بالرأي العام يكاد أن يكون معدومًا، فهذه الأحكام التي تصدر بالجلد المبالغ فيه في قضايا التعزير تنتقد كل يوم، ومع هذا يتوالى صدورها، وتزداد المبالغة في أعداد الجلدات فيها، فالمطالبة بتجريم الصحف وكُتَّابها لما تنشره عن القضاء -وإن كان نقدًا- فيه منعٌ لهم من ممارسة حقّهم المشروع، والمعترف لهم به عالميًّا، وفيه الإيحاء بأن للقضاة عصمةً تمنع أن يُناقش ما أصدروا من أحكام، وهذا أمر ليس فيه مصلحة للقضاء، ولا في مصلحة مَن تُعرض قضاياهم عليه، كما أن القول بأن هذا النشر لا يتم إلاَّ في بلادنا مجانب للحقيقة، بعيد عنها كل البُعد، ولو قيل العكس لكان أصح نقلاً للواقع، والعالم اليوم من حولنا يشجب تجريم النشر، ويرفض أن تمس حرية الصحافة، وعندنا لدى الكثيرين (فوبيا صحافة)، تجعلهم يطالبون بحجب كل شيء عن الصحافة، ومبرراتهم لا حصر لها، فرؤساء بعض الإدارات الحكومية يطالبون الصحف ألاَّ تنشر عن إدارتهم نقدًا؛ لأن قضاياهم لا يجب أن تُناقش إلاَّ داخلها، ومن قِبل المتخصصين فيها من موظفيها، وهذا الذي ينصّب نفسه مفتيًا وداعيًا إذا انتُقد له رأي طالب بتجريم الصحف لنشرها ما لا يدخل في اختصاصها كما يزعم، ومدير الإدارة التي تكثر الأخطاء في دائرته، وتقصر في أداء المهام المنوطة بها، يطالب ألاَّ تتدخل الصحافة في شأنها عبر النشر عنها، وصحافتنا منذ نشأتها وهي تواجه مثل هذا؛ لأن لدينا ثقافة تأسست ورسخت في الأذهان أن النقد جريمة يجب أن تشتد عقوبتها على مَن يمارسها، فلا أحد إلاَّ ما ندر في مجتمعنا يحتمل النقد النزيه، الذي يكشف القصور والأخطاء تمهيدًا لإزالتها، والكثيرون منا يعتبرون نقد ما يقوم به من عمل، أو ما ينتجه من علم، أو فكر، أو أدب انتقاصًا لهم، وإساءة إليهم، ويزداد النفور من النقد كلّما أمعن الشخص الذي يوجّه إليه النقد في القصور، أو الأخطاء، فاشتد لذلك عداؤه للصحف وكُتَّابها، وأسوأ ما يواجه الصحف اليوم مطالبتها المستمرة بنشر ما يدّعى أنه إيجابيات، واتّهامها بأنها لا تنشر سوى السلبيات، والحقيقة عكس هذا تمامًا، فلعلّها المفرطة في ذكر الإيجابيات حقيقة وموهومة، وأمّا السلبيات التي تنتقدها فهي الأقل ظهورًا فيها، يلاحظ هذا كل متابع منصف، ولكن النفور المتأصل في النفوس للنقد في مجتمعنا خيّل للبعض أن صحفنا وحدها التي تنشر عن القضاء أخباره، وتحلل ما يصدر منه من أحكام، وليطمئن أصحاب الفضيلة القضاة والمساندون لهم ألاّ أحد في صحفنا يستهدفهم، وإنما تمارس الصحف دورها المعترف لها به عبر العالم، أن تنتقد كل خلل، أو قصور، أو خطأ، ولا عصمة لأحد من البشر حتى ولو كان قاضيًا، أو شيخًا مفتيًا تمنعهم من توجيه النقد إليه إذا أخطأ، فهذا دورها الأصيل الذي إن تخلّت عنه لم تعد صحافة محترمة يتابعها القرّاء، ويحرصون عليها، فهل يدرك الجميع ذلك؟ هو ما نرجوه والله ولي التوفيق.