أعود في هذا اليوم، يوم عيد الأضحى للمقالة قبل السابقة للمناسبة وللتصويب. فلقد ورد ذكر (مَرّ الظهران) فصوابه فتح أوله (الميم) وليس الضم، كما ورد ولا ذنب لي في ذلك. ومر الظهران وإن نسبه المقدم عاتق بن غيث البلادي في معجم معالم الحجاز إلى (فاطمة، فهي زوجة بركات ابن أبي نُمَيّ، أو أمه لا أذكر الآن ذلك)8/101، وتعليله أن الوادي يُسمّى (وادي الشريف)، وذلك أن الشريف أبا نُمَيّ الذي حكم مكة ستين سنة من 932-992ه كان قد امتلك جل هذا الوادي فنُسب إليه. أما نسبته إلى فاطمة فهي زوجة بركات ابن أبي نُمَيّ، أو أمه، ونسبة الوادي إليها كنسبة الشريف. ولكن الراجح أن الوادي (وادي فاطمة) ينسب إلى فاطمة بنت مَرٍّ الخزاعية، فيقال له وادي فاطمة، ووادي مَرّ ومَرّ الظهران. وتذكر المصادر والمراجع ومنها معجم معالم الحجاز أن خزاعة من الأزد حين أقبلوا من مأرب في أرض اليمن يريدون الشام نزلوا بمر الظهران، فأقاموا به وتخزعوا من ولد عمرو بن عامر، أي انقطعوا عنهم، فسمّيت خزاعة. وأوردت المصادر أبياتًا تُنسب لعون بن أيوب الأنصاري، وكذلك حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه- منها: فلما هبطنا بطن مَرٍّ تخزعت خزاعةُ عنا في الحلول الكراكر ولكن يحسن تحقيق ذلك بدقة؛ لأن خزاعة أجلت جُرْهُم عن مكة قبل الإسلام، واستولت على مقاليد الأمور بها، ثم أتت شخصية قرشية فذّة ومتميّزة، وربما كانت أهم شخصية قيادية وإدارية في قريش قبل الإسلام باطمئنان في الحكم والوصف، وهي شخصية جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قصي بن كلاب، الذي تربطه بخزاعة صلة قربى، ووشيجة رحم فأجلى خزاعة عن مكةالمكرمة، فربما نزحت إلى مر الظهران وهو ما يفسر نسبة وادي فاطمة إلى فاطمة بنت مَرّ الخزاعية. ووادي سرف أحد أهم الأودية التي تصب في مر الظهران، وفي سرف يقع سوق مَجَنّة فهي منطقة تحيط بها الجبال كالمجنة، أي الترس فتخفيها ومادة (جنن) لغويًّا تعني الاختفاء والاستتار، وعلى فم الوادي يقع قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها-. فلقد بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضع ذاته، حيث قُبضت ولا زال قبرها قائمًا على جادة الطريق بين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة في المنطقة ذاتها التي تعرف حاليًّا ب(النوّارية) على يسار الذاهب إلى المدينة. وقصي بن كلاب وزّع المسؤوليات القيادية والإدارية بين أبنائها، ومنها السقاية، والرفادة، والسدانة، ودار الندوة، واللواء. وكلها مهام تتصل بالحج بما في ذلك (الإيلاف) أي المعاهدات التي تسهم في حماية القوافل عند مرورها بالقبائل، فالسقاية تتّصل بسقاية الحاج، والرفادة إطعامه؛ ولذلك حينما تعرّضت قريش لسنة -أي جدب وجوع- تصدّى عمرو بن عبد مناف لمهمة تجهيز الثريد لإطعام الحجيج، فقال عبدالله بن الزِّبَعْرىَ في الجاهلية: عمرو العلا (الذي) هَشَمَ الثريدَ لقومِهِ ورجال مكة مُسْنِتُونَ عجافُ ودار الندوة أقدم برلمان عرفه العرب والمسلمون، أقامة قصي في مكةالمكرمة، وكان لا يدخله من قريش للرأي والمشورة (أي عضوية) إلاّ من بلغ الأربعين، واستثني من ذلك حكيم بن حزام صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والاسلام، وأحد المعمرين، حيث عاش مئة وعشرين عامًا شطرها في الجاهلية، وشطرها في الإسلام، كما أنه وُلد في الكعبة، وهو الذي آلت إليه مسؤولية سوق عكاظ، وكانت أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز تتبع قريش، وتُقام تحت إدارتها. والسدانة، أو الحجابة هي مسؤولية صيانة البيت، وحيازة مفتاح الكعبة. وظلت في عقب قصي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة استدعى عثمان بن طلحة، وأفضل عليه بشرف حيازة مفتاح الكعبة في قصة مشهورة اقترنت بقوله صلى الله عليه وسلم: “خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلاَّ ظالم”، ولا يزال هذا الشرف يطوّق أعناق نسل شيبة إلى يوم الناس هذا. إذ يشرف أحبابنا من أسرة الشيبي بصون ورعاية مفتاح الكعبة، فسادن البيت هو الشيخ عبدالعزيز الشيبي، أسبغ الله عليه ثوب الصحة والعافية. ولست في عوز إلى الإشارة إلى أن (اللواء) يعني رفع راية الجهاد دفاعًا عن قريش والبيت، فهو رمز عريق للجيش، وإن كانت قريش بحكمة قصي استغنت عن خوض الحروب بمعاهدات الحماية التي أبرمها قصي مع القبائل التي تجتاز بها القوافل، وعُرفت تلك المعاهدات بالإيلاف كما أسلفنا، ولكن حكمة عبقري قريش في الجاهلية أحالت قريشًا من قبيلة متفرّقة كان اسمها (فِهْر)، ولا زالت النسبة إليها في بلاد المغرب (الفهري) قائمة إلى الآن، والتاريخ يذكر عقبة بن نافع الفهري فاتح القيروان، وحامل لواء نشر الإسلام في شمال إفريقيا، أحالت قريشًا إلى قبيلة مستقرة يتمحور وجودها اقتصاديًّا ونشاطها على اختلاف ضروبه حول احتضانها للبيت الحرام. وسنّت قريش مبدأ المزاوجة بين الاقتصادي والثقافي في أسواقها، فكان عكاظ الذي يشرف عليه قبل الإسلام حكيم بن حزام -رضي الله عنه- صورة لهذا التزاوج بين الفكر والمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شهد عكاظًا، واستمع إلى قُسّ بن ساعدة الإيادي يخطب على جمل أورق. وإذا كان الأصمعي يرى أن مجنة يعقد من الأول إلى العاشر من ذي القعدة، ثم يبدأ سوق عكاظ حتى نهاية ذي القعدة، ثم يبدأ ذو المجاز على مقربة من عرفات من أول ذي الحجة حتى الثامن منه، حيث ينصرف الناس إلى عرفات، فاحتمال اختلاف الترتيب قائم، ويحتاج إلى تحقيق فربما كان البدء من عكاظ في أول ذي القعدة إلى العشرين منه، حيث ينصرف الناس إلى مجنة لقربها من مكةالمكرمة والمشاعر، ثم يبدأ ذو المجاز قرب عرفات من أول ذي الحجة إلى الثامن منه، حيث ينصرف الناس الى الوقوف بعرفات، ويرجح ذلك ما أوردتُه في المقالة السابقة من وجود طريق بين وادي فاطمة إلى الزيماء، حيث يتجه الطريق إلى عكاظ، ثم يسلكه الجمع، في عودتهم إلى مجنة، ثم الاتجاه إلى ذي المجاز، ولكن دور ذي المجاز انتفى لأن الحاج يذهب إلى منى في الثامن من ذي الحجة، وهو يوم الترويه للارتواء بالماء قبل الدفع إلى عرفات في اليوم التاسع، ومن ثم الإفاضة الى جمع (المزدلفة) مع غروب شمس اليوم التاسع والمبيت بها، ثم المبادرة بالرجم في فجر عيد الأضحى، والتحلّل من الرجم والذبح، أو الرجم والطواف، والدخول في عيد الاضحى، فهو وأيام التشريق أيام أكل وشرب، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، وكل عام والمسلمون جميعًا بخير وعزة وسلامة.