سأبدأ الكلام من الأخير.. نحتاج إلى متحف للطيران المدني في جدة لأنها كانت بوابة الطيران المدني الرئيسة باعتبارها مقر الخطوط السعودية، وكانت مقر هيئة الطيران المدني لفترة طويلة، وكانت أيضا بوابة تقنيات الطيران الأساسية. والآن سأدخل في تفاصيل المقال وهو عن طائرة غيرت مسار الطيران المدني في بلدنا.. وأحمد الله أنني عاصرت الأجيال المختلفة من الطائرات المدنية فرأيت عشقي يتحول تحولات هائلة. منذ فترة طفولتي في الستينيات الميلادية سافرت على طائرات «الداكوتا»، و»السكايماستر»، و»الكونفير» المروحية التاريخية الرائعة.. وفي تلك الفترة أيضاً ركبت الطائرات النفاثة الأولى من طراز «بوينج» 720 و707 و»دي سي» 9، ثم في فترة شبابي في السبعينيات ذهلت بجمال السفر على الطائرات العملاقة المتطورة من طراز «اللوكهيد ترايستار» و»البوينج» 747 ثم الإيرباص 300 في الثمانينيات، ثم عصر التقنيات الحديثة جدا في التسعينيات والألفية الجديدة وعلى رأسها «البوينج» 777 و 787 و»الإيرباص» 320 و 330. وكل من الطائرات المذكورة كانت، بدون أية مبالغة، سابقة لزمانها. كل منها مثلت نقلة نوعية هائلة في مجال النقل الجوي، سواء كان ذلك في التقنيات، أو الأداء، أو الاقتصاديات. ولكن بين كل الطائرات كانت لطائرة «الكونفير» 340 المروحية مكانة خاصة.. لم تكن الأسرع، فكانت سرعة تحليقها تبلغ حوالي 450 كلم في الساعة فقط على ارتفاع حوالي 18 ألف قدم.. ولم تكن الأكبر فكانت سعتها في حدود 44 راكباً ولكنها قدمت في عام 1959 تقنية جديدة مذهلة وهي تكييف ضغط المقصورة.. والمقصود هنا هو أن مقصورة الركاب والقيادة كانتا تتعرضان للانتفاخ أثناء الطيران على ارتفاعات شاهقة لتأمين راحة الركاب والطاقم. وغيرت هذه التقنية النقل الجوي بالكامل.. واليكم التفاصيل: لا يخفى على الجميع أن احتياج الإنسان للأكسجين لا يعتمد على كميته في الهواء فحسب، فهو يعتمد أيضا على ضغط ذلك الغاز الضروري لحياتنا. وتتطلب عمليات الطيران أن تصعد الطائرات إلى الأجواء العليا لتفادي تقلبات الطقس، ولكسب المزيد من السرعة بسبب انخفاض كثافة الهواء. ولكن الصعود إلى ارتفاعات تفوق العشرة آلاف قدم تسبب الانخفاض الشديد في ضغط الأكسجين حولنا، والنسبة التي تذوب في دمائنا مما يشكل خطورة على صحتنا. ولذا جاءت تقنية تكييف الضغط وتشمل وضع مضخات هواء تستمد قوتها من محركات الطائرة. تقوم تلك المضخات «بنفخ» مقصورة الركاب والقيادة بكميات محسوبة.. وينتج عن ذلك مستوى ضغط للأكسجين يسمح بالتنفس الآمن المريح بمشيئة الله. والتفاصيل لضغط المركبة تشمل الدقة في التصميم والتصنيع للهيكل المتين القوي لبدن الطائرة. وذلك لكي يتحمل إجهادات النفخ الغازي على جميع مكونات المقصورة في كل عملية طيران.. وتشمل أيضاً تدابير التحكم في الضغط أثناء الصعود لزيادته، وأثناء الهبوط لتقليصه، والقياس المستمر لتكييف مستويات الضغط، والحرارة، والرطوبة.. والنتيجة من كل ذلك هي السلامة والراحة للركاب والطاقم. وبمشيئة الله، كانت طائرة «الكونفير» هي الرائدة في هذا المجال في الأجواء السعودية. أمنية هناك ما هو أهم من هذه الطائرة في تغيير مفهوم النقل الجوي في الوطن.. فلابد أن نذكر الرجال الأوفياء الذين شغّلوا «الكونفير» بسلامة وبراعة ومنهم معالي الكابتن الراحل أحمد مطر، والكابتن الراحل نهار نصار، والكابتن جزاع غانم، والكابتن أحمد سايس، والكابتن الراحل مصطفى نصر الدين، والكابتن الراحل عمار جمجوم وغيرهم من الأفاضل.. إن تفاصيل الكونفير، ونقاط الانعطاف الرائعة الكثيرة في تاريخ الطيران المدني السعودي تضيف لضرورة إنشاء متحف الطيران المدني لنوثق مكتسباتنا الحضارية الرائعة في هذا المجال بتوفيق الله، وهو من وراء القصد.