لا وجود عبر التاريخ لقوة إستراتيجية دون رؤية إستراتيجية، فالقوى العظمى المؤثرة في صناعة التاريخ، لم تصبح عظمى بمحض مصادفة تاريخية، ولم تمتلك القدرة على التغيير والتأثير بمحض رد الفعل، وانما بإرادة الفعل، ضمن خطة في سياق رؤية إستراتيجية، تستوعب ما تحت يديها من مُقدَّرات، وتستشرف ما هو أمام مستقبلها من تحديات وغايات. في هذا السياق، يصعب تصوُّر أن يكون قرار الرئيس ترامب بالانسحاب الكامل من سوريا، مجرد رغبة رئاسية طارئة، سمحت طبيعة النظام الرئاسي الأمريكي لرجل وحيد أن يفرضها على مؤسسات الحكم في بلاده، فقد كان الانسحاب ضمن وعود الرئيس أثناء حملة الانتخابات الرئاسية التي حملته إلى البيت الأبيض، أي أن مَن صوَّتوا لترامب، ربما فعلوا ذلك ضمن أسباب أخرى، من أجل عودة جنودهم من سوريا سالمين. قرار الرئيس الأمريكي أمس الأول بالانسحاب الكامل من سوريا، فاجأ حلفاء أمريكا في الغرب وفي المنطقة على حدٍّ سواء، بل إنه فاجأ شركاء ترامب داخل حزبه، وحتى داخل إدارته. قبل ثلاثة أشهر كان جون بولتون مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي، يؤكد أن أمريكا باقية في سوريا (13 قاعدة عسكرية) حتى خروج إيران من هناك. أما وزير الدفاع الأمريكي ماتيس فمازال يرى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا دون هزيمة تامة ونهائية لداعش، ربما يقوض مصالح واشنطن هناك، فضلاً عن تقويض ثقة حلفائها بها. السبب الوحيد لوجود القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا، طبقاً لترامب، هو إلحاق هزيمة نهائية بداعش، أما وقد تحقق هذا الهدف، طبقاً لترامب أيضاً، فلا مبرر لاستمرار بقاء القوات الأمريكية هناك. وهو ما يقول وزير دفاع بريطانيا، حليف واشنطن الدائم، أنه غير صحيح، مؤكداً أن داعش ما تزال هناك، وأن هزيمتها الكاملة لم تتحقق بعد. توقيت القرار الأمريكي بالانسحاب، وسط استعدادات تركية معلنة، لعمل عسكري كبير في منطقة انتشار القوات الأمريكية شرقي الفرات، ربما يتيح تفسيراً للقرار، حيث ترغب واشنطن في صيانة علاقات تحالف قديم مع أنقرة داخل الناتو، وحيث يتطلع ترامب إلى إفساد خطط بوتين بزعزعة التحالف الأطلسي، واختراقه عبر تركيا، لكن هذا الهدف أيضًا، يبدو على أهميته، غير كاف، لإقناع خصوم ترامب وحتى شركائه بسلامة قراره. مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن(CSIS ) طرح أربعة أسئلة عقب قرار ترامب في محاولة للفهم: السؤال الأول: لماذا الآن؟!، الجواب: 1- لأن قرار الانسحاب كان أحد وعود ترامب الانتخابية. 2- أن ترامب يريد تجنب انشقاق تركيا عن الناتو. السؤال الثاني: مَن الرابح من قرار الانسحاب؟ ومن الخاسر؟!، الجواب: الرابحون هم، روسيا، وإيران، وتركيا، وبشار الأسد. أمَّا الخاسرون هم، إسرائيل، والأكراد بصفةٍ أساسية، حيث يتيح قرار الانسحاب الأمريكي المباغت إمكانية إقامة ممر بري لإيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان، ما يُشكِّل تهديداً جدياً لإسرائيل، كما يفتح الطريق أمام هجوم تركي كاسح على مناطق الأكراد في سوريا (قوات سوريا الديمقراطية التي رعتها واشنطن، ثم تخلت عنها بغتة). السؤال الثالث: ماذا يعني هذا بالنسبة للسياسة الأمريكية تجاه سوريا؟!، الجواب: يعني أن إدارة ترامب قد تخلَّت عن ثلاثة أهداف رئيسة لها في سوريا، الهدف الأول: إلحاق هزيمة كاملة ونهائية بتنظيم داعش هناك.. الهدف الثاني: استئصال أي وجود عسكري لإيران أو لمنظمات تابعة لها في سوريا (حزب الله مثلاً).. الهدف الثالث: المشاركة بقوة في إقرار مستقبل سياسي جديد في سوريا. السؤال الرابع: ما مصير شرق سوريا بعد الانسحاب الأمريكي؟!.. الجواب: إما أن تجتاحه تركيا، وإما أن تجتاحه قوات بشار الأسد، وفي الحالين قد تشهد المنطقة مجدداً تصعيداً للعمليات العسكرية. قراءة أمريكية للمشهد بعد قرار ترامب المفاجىء بسحب قواته من سوريا، ربما لا تبدو متفائلة، لكنني لا أستبعد تراجعاً أمريكياً، خطوة إثر خطوة، عبر مدى زمني قد يمتد لأسابيع، فالقوات الأمريكية التي يجري سحبها قد لا تعود كلها إلى قواعدها بالولايات المتحدة، وقد يبقى بعضها في الجوار على مقربة من المسرح السوري، وتعبير (هزمنا داعش ولم يعد هناك سبب لبقاء قواتنا) قد يصبح (هزمناها إلا قليلاً وإن عادت عدنا)، والضغوط التركية لمزيد من التنازلات الأمريكية، قد تتزايد لتسليم فتح الله جولن، ما يزيد ضغوطاً داخلية على إدارة ترامب، من خلال الكونجرس الذي يلتئم شمل أعضائه الجدد بعد أيام. قرار ترامب بالانسحاب من سوريا زلزال له ما بعده. أما أخطر توابع الزلزال، فقد تكون حرباً تشنها إسرائيل، لاستباق أي استثمار إيراني للانسحاب الأمريكي. والأسابيع المقبلة حبلى بالمفاجآت، والمخاض يتزايد مع الأيام، لكن أحدث أجهزة السونار لا يمكنها التكهن بنوع المولود القادم، ولا بمدى قابليته للحياة. أما حكماء العالم فمشغولون بالبحث عن قابلة ماهرة.