بالكاد وجدت مكاناً حشرتُ فيه سيارتي، وقد عشنا زمناً يستقبلنا فراغ المواقف بالأحضان طولاً وعرضاً.. لكنه زمنٌ مضى ولله الحمد.. دلفتُ إلى مبنى «جمعية الثقافة والفنون» بجدة، فكان كل ما رأيتُ محفزاً للدهشة والحبور. سارعتُ متلهفاً إلى «الملتقى الثقافي» الذي أعلنت الجمعية افتتاحه خير إعلان باستضافتها لعملاقيْ الثقافة المحلية (سعد البازعي وسعيد السريحي).. ولست في حاجة إلى وصفٍ وتفصيلٍ لجمال اللقاء وثرائه.. فحضور هذين الاسمين يكفيني عناء ذلك. ومن المهم الإشارة إلى أن جلسة الملتقى الأولى احتلت مسرحاً مصمماً لعروض فن (الاستاند أب كوميدي)، وهي مسألة ذات دلالة -إيجابية في رأيي- أعني أن تتحد الثقافة بالفنون، فيكون الملتقى الثقافي وفعالياته الجادة، وما يدور فيها من نقاشٍ علمي ومعرفي عميق، على خشبة فن عصري من فنون الضحك والبهجة. (يقدم فريق هذا الفن برامجَ على هذا المسرح تكتظ لها الجماهير في كل موعد، وتحتاج معها لحجز مقعدك قبل الموعد بأسابيع أحياناً). انتهيتُ من الملتقى مثقلاً بأسئلة اللغة ومآلاتها، فخرجت أتمشى في مبنى الجمعية.. وقفت ملياً في ركن مكتبة المؤلف السعودي بثرائها وجمال تصميمها، والتقيتُ عدداً من الزملاء والزميلات، وخضنا في حديث ثقافي واجتماعي ماتع (بعض الزميلات أعرفهن من سنين طويلة، بالصوت فقط، وهذه واحدة من عجائبنا الاجتماعية!!!). هناك عاد إلينا رئيس الجمعية محمد آل صبيح ليقدم لنا نبذة ملهمة عن جهود الجمعية في خدمة الثقافة والفنون؛ لم يكتف بالكلام، فأخذني بيدي ليقودني في جولة حول المكان.. كانت يداه في يديّ تقولان الكثير عما يريد أن يفعله، عن طموحه ورؤيته، وانضم لرحلتنا فتاة متخصصة في التنسيق والإعلان تتطلع للدخول لعالم الثقافة والفنون وتطوير معرفتها وتنمية مهاراتها ومواهبها.. فاستقبلها الرئيس بحفاوة، أدخَلَنا على اجتماع لعدد من الموسيقيين يقودهم مبدع اللحن طلال باغر نحو طبخة موسيقية (خاثرة كما تراءى لي)، حطّ بِنَا آل صبيح بعد ذلك على غرفة تقام فيها ورشة عمل عن التقطيع الشعري يقودها الشاعر الجميل سعد الحافي (ويحتشد فيها عدد من المهتمين رجالاً ونساءً)، وجهنا التحية.. ثم غادرنا لنجد أنفسنا في مجلس ثقافي تحت الإعداد (تبين لي لاحقاً أنه في الأصل مكتبُ الرئيس قدمه لتستفيد منه الجمعية كمجلس ثقافي/فني يستضيف اللقاءات والأنشطة). على الجهة المقابلة رأيتُ غرفة صغيرة تحاشرت فيها المكاتب الصغيرة، وكان أحدها مكتب الرئيس. لم تنتهِ الرحلة بعد.. سار بنا رئيس الجمعية إلى المعرض التشكيلي الدائم (القاليري)، لنقف على عدد من الأعمال الفنية الجميلة لفنانين وفنانات المملكة من مختلف المدارس الاتجاهات.. كان آل صبيح مهتماً بلوحة لشابة سعودية بصيرة.. أبدى لنا إعجابه بأعمالها ورغبته الملحة لأن يقدمها للجمهور عبر معرض خاص بها. انشغل آل صبيح حينها بموضوع طارئ فاستأذن.. نظرتُ حولي في صالة المعرض، المكتظة بالفن الراقي.. في الصالة ذاتها طاولة مستديرة، يجتمع فيها نخبة من النقاد والكتاب مرةً كل شهر في (منتدى جدة للدراسات النقدية) ويرأسهم السريحي. فكرت.. يا لها من رحلة ثرية.. يحتاج من يخوضها للكثير من اللياقة! فكرتُ أيضاً.. أن الأفق لا يكفي رئيسها للتحليق بطموحه في خدمة ثقافة جدة.. وفنونها!!