من المُلاحظ ما للصّمت من فوائد نفسيةٍ وآثار إيجابية، فاغتنامُه في أوقات كثيرةٍ من فضائل الحُكَماء، وهو ملاذُ المتأمّلين ومهْرَب المتألّمين وعزاءُ الموْجوعين، وعبادةُ المُتصوّفين، وجنة المُتفكّرين، وعلامةُ العارِفين، وديدن المُتّقين، وبه يستعين المُتعبِّدون على التشافي، ففي الصّوم عن كلام الناس تجنبٌ لأذيّتهم، ووقايةٌ من لغَطهم، وعلاجٌ من أدوائهم. وفي الصّمت بُعدٌ عن فُضول الكلام، ودفعٌ لزلل اللسان وتجنبٌ لمعصيةِ الرّحمن، وهو آيةٌ للأنبياء وتوجيهٌ للصالحين، فقد حدّث الحقُّ سبحانه وتعالى عن نبيّه زكريا في قوله: «قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا» (سورة مريم، آية 10)، وقَرَن الله الصّوم عن كلام الناس في آية أخرى بالأمر بذكره كثيراً، حيث قال جلّ وعلا: «وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ» (آل عمران، آية 41). وفي السُّكوت فصلُ الخِطاب وخيرُ جواب، حين يكثُر الكلام ويزداد الّلغط في زمن الرّويبضات، ويُصبح الحليمُ حيران، وينتشرُ الحمْقى والأغبياء، ففي الصّمت هدوءٌ واتزان وسلام، ومراجعةُ أفكارٍ وتركيزُ اهتمام وضبطُ انتباه وتعديلُ أهدافٍ وغاياتٍ، وتفكّرٌ في آلاء الله، وتأملٌ في حِكَمه وتدبيرِه ونواميسه، وهو سببٌ لصفاءِ الذهن وتحسينِ المِزاج. والصّمت مَجالٌ لإصغاءِ السّمع وحُسْنِ الاستماع، وملاحظةِ الإشارات، واستيعابِ العَلامات وربطِ المعلومات، ومعه يملأُ الإنسان وعاءَ عقله بحُسن التفكّر ومُفيدِ الكُتب والعلوم، وهو لغةٌ جميلةٌ ومهارةٌ لها رونقٌ جذّاب ومعانٍ يفهمها أولو الألباب، ويُضفي على صاحبه الهيْبةَ والوقار، وهو ردٌّ بليغٌ وجوابٌ حكيم على كثيرِ الكلام والمَلام ، وقد يظنّه بعضهم انطوائيةً وكآبة، لكنه في غالبه تجنّبٌ للخوض فيما لا يُفيد، وبعدٌ عن النّدم على لغوِ اللسان وفضولِ الكلام، فلِكلّ مقامٍ مَقال، والصّمتُ مقامُه رفيعٌ ومقالُه سديد، ولزومُه سلامةٌ من الضرر وستارٌ عن المَعايب، وتفادي الضّجيج والصّخب واللغو والكذب، وهو في مُجمله فنٌّ يُتعلّم ولباقةٌ تتكلّم. يقولُ الكاتب الأمريكي إرنست هِمنغواي: (يحتاجُ الإنسان إلى سنتيْن ليتعلّم الكلام، وخمسين ليتعلّم الصّمت)، ويقول الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون: (الصّمت هو الذي يُغذّي الحِكمة).