منذ نحو عقدين، طالبتُ بأن تكون للمرأة حقّ الفتوى باعتباره حقًّا شرعيًّا منحه إيّاها الخالق في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (التوبة:71)، وقد مارست المرأة هذا الحق على مدى عشرة قرون منذ ظهور الإسلام حتى القرن العاشر الهجري، فمِن الجانب المُعتّم عليه في حضارتنا الإسلامية من قِبَل المؤرخين، وبعض علماء الحديث المعاصرين مدى إسهام المرأة المسلمة في النهضة العلمية في مختلف العلوم في شتَّى العصور، فبعد أن كان للمرأة حضور في المجتمع الإسلامي منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام، فكانَتْ تتعلَّم من الرجال والنساء وتُعَلِّم الرجال والنساء، وتصنِّف الكتب، وتُفْتِي، وتُستشار في الأمور العامَّة، وترحل لطلب العلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، فلم تَكُنْ حبيسةَ منزِلٍ أو حجرة، أو أسيرةً في مهنةٍ معيَّنة، بل كان المجال مفتوحًا أمامها، تظله الشريعة الغراء، ويرعاه العفاف والطهر -ولم يكن للغرب أي تأثير آنذاك- إلى أن تمّ تهميشها في القرن العاشر الهجري، حتى بلغت نسبة الأمية بين النساء المسلمات في عصرنا الحاضر (66%). فكانت العالمات المسلمات يعقدن مجالس العلم في الحرم المكي، وفي كبريات المساجد الإسلامية، ويحضُر لها الطلاب من الأقطار المختلفة، وعُرف عن بعض الفقيهات والمحدثات المسلمات أنَّهن أكثَرْنَ من الرحلة في طلب العلم؛ إلى عددٍ من المراكز العلمية في مصر والشام والحجاز، حتَّى صِرْنَ راسخاتِ القَدَم في العلم والرواية والفقه ، وكان لبعضهن مؤلفات، منهنّ: 1. أم المؤمنين السيّدة عائشة رضي الله عنها: وهي راوية للحديث، وقد مارست الفتوى في زمني أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وكانت تأتيها مشيخة محمد -صلى الله عليه وسلم- يسألونها في عويص العلم ومشكله، فتُجيبهم جوابًا مشبعًا بروح التروِّي والتحقيق، ممَّا لا يتسنَّى إلاَّ لمن بلغ في العلم مقامًا عليًّا، وقال مسروق: «رأيتُ مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض». وقال عطاء بن أبي رباح: «كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة»، وقال المقداد بن الأسود: «ما كنتُ أعلم أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة». وقال الزركشي في المعتبر: «إنَّ عمر بن الخطَّاب وعلي بن أبي طالب كانا يسألانها في مسائل فقهية عديدة». وفي شرح الزرقاني وفتح الباري: «أنَّ عائشة كانت فقيهة جدًّا حتى قيل: إنَّ ربع الأحكام الشرعية منقول عنها»، وقال عروة بن الزبير: «ما رأيتُ أحدًا أعلم بالقرآن ولا بفرائضه ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسبٍ، من عائشة»، وقال أيضًا: «ما رأيتُ أعلم بفقهٍ ولا طب ولا شعر من عائشة». 2. وأم المؤمنين السيّدة حفصة -رضي الله عنها- كانت –أيضًا- من راويات الحديث عن الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وكانت تفتي. 3. وممن عُرف عنهن بالفتوى أم المؤمنين السيّدة ميمونة بنت الحارث، رضي الله عنها. 4. وأم عيسى بنت إبراهيم بن إسحاق الحربي، تُوفّيت سنة 328ه (انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والبداية والنهاية لابن كثير، والمنتظم لابن الجوزي، وصفوة الصفوة لابن الجوزي ). 5. وأمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل المحاملي تُوفّيت سنة 377ه، وكانت عالمة فاضلة وفقيهة متفقهة في المذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة. (أنظر تأريخ بغداد للخطيب البغدادي، وصفوة الصفوة لابن الجوزي، والمنتظم لابن الجوزي، وطبقات الشافعية لجمال الدين الإسنوي، وشذرات الذهب لابن العماد، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، ومرآة الجنان لليافعي). للحديث صلة.