ما معنى السيرة الغيرية؟ يبدو المفهوم غريبًا وربما جديدًا، ومعقدًا، مع أن المسألة بسيطة ويمكن توضيحها بسهولة. يشير مفهوم الغيرية لغويًا إلى ذات أخرى نريد التعرف عليها، غير ذاتنا. أي أن السيرة الغيرية تهتم بحياة شخص آخر، ويتكفل كاتب ما بتدوينها. من هذا الكلام ينشأ سؤال آخر: ما الفرق إذن بين السيرة كمفهوم تقني وفني، الاهتمام بحياة شخص آخر، فنانًا كان أو عسكريًا معروفًا، أو شخصية اعتبارية، يكتبها المؤلف بعد جمع كل التفاصيل الخاصة بموضوعه وشخصيته، كما في السيرة التي كتبها أوليفيه طود Olivier Todd عن صديقه الكاتب ألبير كامو، ذاكرًا فيها تفاصيل حياته بما فيها الخصوصيات التي أذن له بها قبل وفاته في حادث سيارة . تتفرع السيرة الغيرية إلى جزئيتين أساسيتين، سيرة غيرية عامة، تهتم بتفاصيل شخصية ما وفق مرجع حقيقي يبررها، كما في النموذج الذي ذكرته قبل قليل. أي أن الكاتب يصبح مثل المؤرخ لا يحيد عن الحقيقة كما حدثت، أو على الأقل يفترض ذلك. المؤلف في هذا النوع من السيرة الغيرية، مجرد آلة ناقلة. الجزئية الثانية من السيرة الغيرية هي السيرة الإبداعية، تتحول فيها المادة التاريخية الحياتية التي عاشها شخص ما، إلى إطار مرجعي للكتابة الحياتية التي يخترقها التخييل، ويجعل فيها المؤلف المبدع الصامت يتكلم وفق رؤية مدروسة ومحتملة الوقوع، ويملأ البياضات. أي أننا أمام حالة خلاسية بين السيرة والرواية. لكن يظل ما يرويه الكاتب مؤطرًا بشكل واضح وعلى تماس دائم بالحقيقة الموضوعية كما حدثت، أو رويت. الجزء الحميمي الذي يقوم الكاتب بالعمل عليه ينقل السيرة من مجرد فعل سلبي تنقل من خلاله تفاصيل الحياة بشكل حرفي، إلى فعل سيري إبداعي تخييلي. التخييل هنا لا يعني الخروج عن القاعدة، ولكن العمل على ما يفشل التاريخ في قوله. مثلا، التاريخ يروي لنا عن بطولات نابليون، ويرسم صعوده ولحظات انهياره وهزيمته المدوية، لكن هذا التاريخ نفسه لا يصور لنا حالاته النفسية وأسراره الحميمة، وكيف كان يفكر وهو يقاد إلى المنفى؟ الرواية السيرية بمعناها الابداعي تستطيع أن تقول هذا كله . رباعية باتريك رامبو: المعركة (1997) كان الثلج يسقط (2000) الغائب (2003) القط المنتعل (2006). صورت لنا من خلال شخصية افتراضية، نابليون في كل تحولاته الداخلية التي لم يستطع المؤرخ لمسها. فدخلت في عمق خيبته ورغبته المحمومة لاستعادة مجده، لكن زمنه كان قد انتهى. كل هذه التفاصيل المدرجة التي تعتبر من نفايات التاريخ لأنها لا تهمه في بناء معمار حقائقه، هي جزء من المادة المكونة للسيرة الغيرية بمعناها الابداعي، حيث لا يبقى الكاتب رهين المرجعي فقط لأن هذا سيسقطه حتمًا في السيرة بمعناها التقليدي. بقي أن نسأل سؤالا بنيويًا: هل هناك ميثاق سيري يحكم السيرة الغيرية كالذي حدده فيليب لوجون في كتابه عن الميثاق السيرذاتي Le pacte autobiographique؟ موجود وفق قوانين السيرة عمومًا، مضاف عليها فعل الحرية. يمكننا أن نسجل في هذا السياق ملاحظتين : 1- السيرة الغيرية الوفية تجاه ذات ليست للسارد ولكنها لغيره، ويعيد بعث تفاصيلها من خلال اللغة بنفس حرفية وقوعها. الكاتب آلة لا تتخطى الإملاءات أو المادة التاريخية الموجودة في بطون الكتب أو مرويات وشهادات من عاشوا مع الشخصية أو عرفوها عن قرب . 2- السيرة الغيرية الإبداعية لها ضوابطها التي تتقاطع فيها مع السيرة وتختلف معها فيها أيضًا. هي مسألة مسافة بين الكاتب وما يربد تسجيله، ومسألة حرية تغلف النص وتجيب عن بياضاته والأسئلة التي أهملها التاريخ أو تفاداها. السيرة الإبداعية هي بالضبط حالة الخروج عن الثابت التاريخي المتفق عليه، في بعض تفاصيلها. وهذا يضعنا أمام مشكلة كبيرة، وهي إلى أي مدى نستطيع ان نجعل من هذه الحرية خيارًا؟ هل يحق لكاتب ما أن يغير جذريًا في حياة انجزت وانتهت وأصبحت مثل المسلمة؟ قد يكون الالتزام بالمادة الحياتية شيئًا ضروريًا، ولكن العمل على البياضات والخفايا المنسية، جزء مهم في العملية الإبداعية، وهو ما ينقل السيرة من التاريخ إلى الإبداع. لهذا فالخطأ الذي يرتكبه الكثير من القراء هو وضع الرواية في مصاف التاريخ والحكم على السيرة الغيرية الإبداعية من هذا المنظور، وهو ما يحملها مسؤولية لا تناسب جوهرها.