قرأت ذات مرة أن أكثر ما أثار استغراب ضيف ألماني رسمي لدى إحدى الدول العربية هو كثرة عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين فيها. وعلق بعد جولته على ذلك: «هنا يبدو لي أن جميع الناس يريدون أن يكونوا أطباء أو مهندسين على حساب المهن الأخرى التي لا تتطلب دراسة جامعية عالية!» ففي تجربة التعليم في المانيا 80٪ من المواطنين يلتحقون ببرنامج التعليم المهني الذي يقوم بتدريبهم على العديد من الحِرف الفنّية. و15٪ فقط هم من يلتحقون بالتعليم العالي.. أما في أمريكا وحسب الإحصائيات: 70٪ من الأمريكيين لا يمتلكون شهادة جامعية! بل ينصح كاتب إحدى المقالات في جريدة «ذا أولمبيان the Olympian» الأمريكية بعدم الالتحاق بالتعليم الجامعي، ويبرّر ذلك بأن الشهادة الجامعية لا تضمن الوظيفة ولا الدخل الأعلى، ويستشهد بمتوسط دخل المعلم في ولاية واشنطن 45.772 دولارًا، بينما يرتفع هذا الدخل للحرفيّ الماهر (journeyman) ، الذي لا يملك شهادة جامعية، ليصل إلى 72.000 دولار سنويًا! وأما في المملكة، ورغم وجود التعليم المهني منذ أكثر من نصف قرن، إلا أننا عندما نتحدث عن نظامنا التعليمي فكأننا نتحدث عن مسارٍ واحد لا يتخيّل الفرد السعودي نفسه بتاتًا في غيره، وهو أن يلتحق بالجامعة بعد تخرّجه في الثانوية. وإذا كنا نرغب في وضع أيدينا على الجرح، فسنلوم أنفسنا وثقافتنا وتصنيفنا للمهن والمجالات، فثقافة «هذا لائق وهذا غير لائق».. تُكلّف اقتصادنا مبالغ هائلة كان السعوديون أولى بها؛ حيث تصل التحويلات المالية للمقيمين الى ما يقارب 150 مليارًا سنويًا، ناهيك عن البطالة المتفاقمة لحملة الشهادات الجامعية في تخصصات اكتفى منها سوق العمل.. لذلك، دعونا نرجع لقيِمنا القديمة التي تحترم الحِرفة، وتقدّس العمل باليدين وعرَق الجبين، فالسعوديون عامّةً كانوا عصاميّين ويعملون بشتّى الحِرف، بل كثير من العوائل التجارية المعروفة عُرفوا بحرف كانوا يعملون بها.. مثل : القزّاز والنّجار والعطّار والكعكي والقطان وغيرهم.. دعونا نعود للقيم المستقاة من تاريخنا وديننا، فأبونا آدم كان فلاحًا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عمِل راعيًا، وإبراهيم كان بنّاءً، ونوح كان نجارًا، وإدريس كان خياطًا.. وغيرهم! واستبشروا خيرًا، فهناك من شباب اليوم من هم مستعدون لكسر العقبات الاجتماعية، ورأينا نماذج منهم في صيانة الجوالات وتقديم الطعام وقيادة السيارة، وحققوا نجاحًا باهرًا ومدخولًا يفوق ما تحققه الوظيفة! وهذا يتماشى مع رؤية الوطن 2030 التي تضمّنت خططها التوسع في التدريب المهني. أختم المقالة بأن أذكر بالخير هنا، معالي الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله، حينما ترجّل عن رداء الوزير وقرر أن يصبح نادلًا بإحدى المطاعم لساعات، تجسيدًا لشرف العمل باليد، وكان في معيّته معالي الدكتور علي الغفيص حينما كان محافظًا للتدريب المهني، حيث استهل القصيبي حديثه للشباب: ادحضوا التقاليد البالية، وتشرّفوا برداء العمل.