يعتبر العمل الوسيلة الأساسية لتأمين حاجات الإنسان من غذاء وسكن، وكساء... إلخ، وهي حاجات تتغير تبعاً للزمن والثقافة السائدة ومستويات الدخل. لكن هل يكفي أن يؤمن العمل تلك الحاجات كي يشعر المرء بالرضا والسعادة؟ هل وظيفة العمل هي فقط تأمين تلك الحاجات بغض النظر عن طبيعة العمل ونوعيته وظروفه أم أن له وظائف أخرى؟ وإلى أي حد يعتبر ضرورياً للإنسان، أن يختار بإرادته الحرة ورغبته، العمل الذي يريد؟ إن إعادة إثارة مثل تلك الأسئلة، هي مسألة مهمة وضرورية، في ظل هيمنة ثقافة تقدس العمل المجرد في معزل عن صفاته وشروطه الإنسانية، وتعتبر أن من يحدد القيمة الاجتماعية له ولمن يقوم به، هو العائد المالي وليس أي شيء آخر. لذلك، لا عجب في ترديد الناس المثل المعروف «معك فرنك بتسوى فرنك». ونتيجة لتلك الثقافة، أصبح طبيعياً النظر الى الكثير من الأعمال غير المنتجة، التي تدر أرباحاً طائلة كالتجارة، أو المضاربة بالأسهم... إلخ. على أنها أفضل وأرفع شأناً من مهنة التعليم مثلاً، التي وصل الأمر بها، في بعض الدول العربية، حد المهانة، عندما أجيزت «الزكاة» للمعلمين من ذوي الدخل المحدود! في هذا السياق، أي في ظل هيمنة ثقافة الكسب الكبير والسريع، والحط من قيمة العمل المنتج المبدع، وبسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة، لا سيما في البلدان النامية، فقد بات مألوفاً، بل ومدعاة للتفاخر، أن يلجأ الكثيرون، من أصحاب المهن، التي تتطلب التركيز والراحة، الى مضاعفة عدد ساعات عملهم، الأمر الذي ينعكس سلباً على أدائهم المهني (الأطباء الذين يعملون نهاراً في المشافي ومساء في عياداتهم الخاصة، المعلمون وظاهرة الدروس الخصوصية وغيرهم). وأن يعمل حملة الشهادات الجامعية في مجالات لا علاقة لها باختصاصهم، فيجمعون في الوقت نفسه بين مهنتين مختلفتين، وتطغى في لقاءاتهم الاجتماعية أحاديث المشاريع التجارية والمال والربح على ما عداها من أحاديث. فأين موقع العمل اللائق المبدع في ثقافة اليوم؟ وكيف يمكن الإنسان، في مثل هذه الظروف، أن يطور عمله ويتطور به؟ وماذا عن حق الإنسان في اختيار العمل الذي يحب والذي من خلاله يمكنه تحقيق ذاته وتحريرها؟ حقيقة، ليس هناك إحصاءات تبين نسب من اختار عمله ومن أجبر عليه، لكن بعض المؤشرات تجعلنا نزعم أن نسبة كبيرة من البشر لم يختاروا مهنهم بمحض إرادتهم، بل اضطروا لذلك بسبب عدم توافر العمل اللائق، ومن أجل تحسين الدخل. وتختلف تلك النسبة تبعاً لدرجة تطور المجتمعات من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذلك نجدها في البلدان المتخلفة عالية مقارنة مع البلدان المتقدمة. هذا هو حال عمال المصانع الذين يقضون حياتهم في تكرار عمل محدد وممل، وحال العاملين في مجال الحرف أو المهن اليدوية التي تستنزف الطاقة ولا تبقي لمن يقوم بها وقتاً إلا للنوم، والعاملين تحت الخطر المعرضين لفقدان حياتهم كعمال مناجم الفحم والعاملين في مجالات تنتج الموت والدمار للبشر مثل الصناعات الحربية. ولا يندر أن نعثر في هذا العالم على الملايين ممن يضطرون للعمل مقابل طعامهم فقط. ومقابل ما سبق، يفضل الكثيرون دراسة الاختصاصات المطلوبة في سوق العمل، وهو ما يفسر إقبال الطلاب اليوم على دراسة علوم الكومبيوتر والاتصالات، الأمر الذي يؤدي إلى حصول نقص في بعض الاختصاصات الضرورية للمجتمع. بمعنى آخر، فإن اختيار طبيعة العمل ونوعيته ليس في منأى عن قانون العرض والطلب، وفي هذا السياق يشار الى ظاهرة تسليع المهن ذات الطبيعة الإنسانية وتحول بعضها، في البلدان التي تتميز بالفساد وغياب دولة القانون، إلى مهن تجارية بامتياز. ولم ينج من التسليع والخضوع لقانون السوق حتى أولئك العاملون في المهن ذات العلاقة بالإبداع من أدباء وفنانين. إن تقدم البشرية وارتقاءها يرتبطان في شكل كبير بمدى نجاحها في زيادة نسبة من يختار عمله ويحبه، لا من يجبر عليه. أي بمعنى آخر، النجاح في إعادة الاعتبار الى مفهوم العمل كنشاط حر وإبداعي يتفاعل فيه الإنسان مع ذاته ومع الآخرين. وإلى أن يأتي ذلك اليوم، فإن من حق البشرية أن تسعى في شكل دائم وحثيث لتحسين شروط العمل ومنها تقليل عدد ساعات العمل. في عصرنا هذا ربما يكون صحيحاً، استبدال الثقافة السائدة التي تقدس العمل الدؤوب بثقافة أخرى تقدس ساعات الفراغ بما يمكن البشر من ممارسة هواياتهم وتحقيق رغباتهم الإنسانية، وإطلاق طاقاتهم الإبداعية، والاستمتاع بكل ما هو جميل وحضاري كالمسرح، والسينما، والرياضة، والسياحة. وقد يكون ذلك من اليوتوبيا، لكنها ليست بعيدة من الواقع كما قد يبدو للبعض. ففي فترة من التاريخ، كان ينظر الى الكثير من المطالب كتخفيض عدد ساعات العمل اليومية، والعطل الأسبوعية والإجازات السنوية، والضمانات الصحية والاجتماعية، ورواتب العاطلين من العمل على أنها مجرد أحلام. لكنها، مع الزمن، وبفعل كفاح البشرية، باتت واقعاً ملموساً. ومن الطبيعي القول، إن باب تحقيق المزيد من المكاسب، لم يغلق بعد، وربما، لن يغلق ابداً! * كاتب فلسطيني.