سمعت في إحدى المناسبات رجالًا متعلمين يتحدثون عن أبنائهم؛ فأحدهم مسرورٌ بدخول ابنه كلية الطّب، كما أراد له لحظة ميلاده، أما الآخر فيروي ما جرى بألم: «ابني علاماته عالية وتدخّله هندسة وطب، لكن الله يهديه -مجنّني- مُصرّ يدخل إدارة!» ثم يستغرب الجميع، ويقدمون للأب الحزين نصائح «مجرّبة» في إقناع ولده. هذا المشهد يتكرر بكثرة في مختلف العائلات، وخصوصًا في مثل هذه الفترة، كلما دار الحديث عن الأبناء. وقد قرأت في إحدى المرات إحصائية إماراتية أجرتها جامعة العين عام 2012 تقول: إن نسبة الذين التحقوا بالتخصص الدراسي بناء على ميولهم لا تتجاوز 12.5% عند الإناث، و11.3% عند الذكور. وأنا لا أعتقد أن الوضع هنا يبتعد كثيرًا عن هذه الأرقام، وهي بلا شكّ نتيجة مؤسفة لثقافة خاطئة تضر الشباب وتقتل ميولهم ومواهبهم، وبالتالي لا يستفيد الوطن منها. * يقول المخرج والممثل المرشح ل»الأوسكار» ريتشارد لينكليتر: «إن الضوضاء التي يثيرها الناس حولك عندما تتحدث عن اختيارك للأدب أو الفنون كتخصص، سترتكز على أن الفنون لن تقودك إلى أي شيء. سيريدون منك أن تصبح محاميًا أو طبيبًا أو مهندسًا، على الرغم من أنهم لا يعلمون أي شيء عنها، في المقابل يستمتعون بالكثير من الفنون والكتب والأعمال الأدبية الخالدة ويرفضون أن تتخصص فيها.. إنه قمة التناقض» ويستشهد: «اخترت الإخراج، يناقض ما يقولونه 180 درجة ونجحت.. ألا يكفي أنني ترشحت للأوسكار وأظفر بأجر عالٍ ومستمتع بعملي؟» * يا سادتي لا بدّ أن نعلم أن المجتمع خليط من الرغبات، توازي في المقابل خليطًا من مختلف الاحتياجات.. وكلٌّ أودع الله فيه قدرات معينة لميول محددة.. ولهذا لا بدّ أن نتوقف عن تصنيف المجالات، ونرفض ثقافة هذا أفضل من هذا؛ لا يوجد تخصص أفضل من تخصّص آخر على الإطلاق! الأفضل للإنسان هو ما يقارب ميوله وقدراته ويشعر تجاهه بالشغف، والقدرة، والجاهزيّة، بحيث يستطيع العمل به باستمتاع طيلة حياته. فالحِرفيّ الناجح، أفضل من الطبيب الفاشل.. والمعلم المتميز والشغوف بعمله، أفضل بألف مرة من المهندس العادي، الذي يحمل همّ الدوام كل صباح. * ختامًا، لقد أوجز معالي الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - كل ما كتبت في هذه المقالة بعبارة قصيرة: «إن اكتشاف المرء مجاله الحقيقي الذي تؤهله مواهبه الحقيقية لدخوله، يوفر عليه الكثير من خيبة الأمل فيما بعد!». * لمحة: إذا تبعنا الآخرين في تحديد مصيرنا، وسمحنا لأظفارهم بحكّ جلودنا؛ فسنواجه العديد من الآلام والجروح والندم فيما بعد.