أستبعد أنه يوجد في العالم مثقفٌ مهتمُ بقضايا التنمية والتطور الحضاري والمستقبل الإنساني لم يقرأ للمفكر الأمريكي (آلفين توفلر) أو قرأ لمن كتب عنه أو ممن اقتبس شيئاً من أقواله أو على الأقل سمع به إن هذا الكاتب الذي أدهش العالم وتسابقت الشعوب لترجمة كتبه والاسترشاد بأفكاره وصارت الدول تستدعيه وتستشيره وتطلب رأيه في الكثير من قضايا التنمية لم يكن من أصحاب الشهادات الأكاديمية العليا وقد مارس أصعب المهن وعانى من لهيب مصاهر الحديد والفولاذ والمعادن وعمل لحاماً تتطاير عليه شظايا الحديد ويتعرض بصره للاعتلال والأذى ويواجه بجسمه الحرارة والاكتواء. فما الذي يدفع شاباً متوقداً يحمل دبلوماً جامعياً إلى أن ينصرف عن العمل الرفيع والمريح الذي تضمنه له شهادته وينخرط في عمل يدوي مرهق في أحد المصانع؟! ولا يكتفي بممارسة التجربة شهراً أو شهرين ليعرف الواقع وإنما يواصل هذا العمل الشاق خمس سنوات كاملة!! ليؤكد بعدها أنه تعلَّم في المصنع أكثر مما تعلَّم في الجامعة بل إنه حين سئل: "كيف صار العامل الذي كُنءتَه كاتباً؟" أجاب بكل وضوح: "كان المصنع جامعاتي" وليس من سبب لهذا الاندفاع وهذه التضحية سوى الاهتمام القوي التلقائي بشؤون العمال والرغبة الصادقة في معرفة أوضاعهم والعمل على مساعدتهم وقد رأى أنه لن يتمكن من ذلك حتى يندمج بهم ويعاني نفس معاناتهم لتكون معارفه عنهم نتاج تجربة ذاتية حقيقية ومعايشة مباشرة لقد أراد أن يعرفهم من داخلهم ومن عمق مكابدتهم وقد كان الاهتمام بهذه الطبقة في ذلك الحين هو محور الصراع بين التكتل الماركسي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي والعالم الحر الغربي الذي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية وكانت ميوله وقتها مع اليسار ضد اليمين فرأى أن يكتشف الحقيقة بنفسه فلا يعتمد على تهويلات الماركسيين ولا على تطمينات الرأسماليين إنه لم يكن واحداً من الإمعات الذين يندمجون في المألوف ويبقون مغتبطين به ولكنه كان مستقل التفكير وكان حريصاً على أن يتأكد بنفسه من دعاوى كل الأطراف لقد كان مهتماً بالشأن العام منذ طفولته فمنذ أن كان بالمدرسة كان شغوفاً بالمساواة ومهتماً بقضايا العمال والأقليات والمهمشين وكان يرى أن شيخوخة وعجز المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية هي سبب الكثير من معاناة الشعوب فلابد في نظره من تغييرها بما يلائم التطورات الحضارية الكبرى التي طرأت كما كانت لديه منذ الطفولة رغبة قوية بأن يصير كاتباً وقد أدرك أن الدراسة النظرية لا تؤهله لمثل هذه المهام العامة الكبرى فاندفع لمممارسة الأعمال الشاقة والاندماج بالكادحين ليملأ ذاته بالمعاناة وينضجها بالتجربة لقد كانت مغامرة مرهقة لكنها أسفرت عن نجاح مذهل هكذا يفعل الاهتمام التلقائي القوي إنه الباعث الحقيقي للعلم والدافع الصادق في العمل إنه منبع الإبداع ومصدر التميز. لقد عمل في فرز وصهر المعادن ومارس التذويب والسبك والصقل واستخدم أدوات العمل المختلفة من المطرقة إلى الرافعة وعمل في تنظيف عوادم السيارات واستمر في هذه الأعمال الجسدية المضنية والوضعية خمس سنوات كاملة لقدر رضي أن يظل مغموراً بضوضاء المصنع وحرارة الأفران وشظايا الحديد وإرهاق الكدح البدني وكل ذلك من أجل أن يعرف الحقيقة ليس بما يقال عنها وإنما أراد أن يراها عياناً ومعايشة وممارسة وخَرَجَ من هذه المعايشة القاسية وهو يعرف كيف تُصنع الأشياء وكيف يعاد صنعها وكيف تصان وكيف يعاني العمال وكيف يواجهون هذه المعاناة بالدعابة والمرح وكيف يواصل المتعالمون المنتفشون الحديث من مكاتبهم الوثيرة عن قضايا لم يفهموها وعن أوضاع لم يلموا بها وكيف يرددون أقوالاً تعارضها حقائق الواقع!!.. ثم خرج من المصنع وضوضائه ومعاناته وتجاربه المتنوعة في الأعمال البدنية الشاقة ليعمل في الصحافة وهي أيضاً مكابدة حقيقية ولكن من نوع آخر وكانت البداية هي الكتابة عن مهنة التلحيم ثم أصبح يكتب تقارير عن العلاقات بين الشركاء الاجتماعيين في الصناعة وعن الإضرابات والاقتصاد والقضايا النقابية وشروط العمل وعن أمور كثيرة من هذا المستوى ثم صار يغطي أخبار البيت الأبيض من داخله ويُعَدُّ تقارير عن المؤتمرات الصحفية التي يعقدها الرئيس الأمريكي وعن النقاشات البرلمانية في الكونغرس حول كل القضايا والموضوعات العامة. إنه يرى أن الصحافة مدرسة قاسية إنها تقوم على الالتزام الصارم فتعلّم دقة الملاحظة وإرهاف السمع لكل شيء وكل حدث وإطلاق البصر والبصيرة في كل الاتجاهات لالتقاط الخبر المهم والصورة النادرة واستخلاص الحقيقة الممحصة وسط فوضى التناقضات. إن الصحافة تجعل الإنسان يمزج بين المعرفة المقروءة والتجربة المباشرة إنها تدفع المرء إلى تركيز اهتمامه وحشد طاقته إنها لا تقبل الإهمال ولا الإمهال ولا التأخير ولا التسويف إنها تُدَرِّب على الاهتمام القوي وعلى الانتباه الحاد وعلى الانضباط الشديد وعلى الفاعلية المنتجة والدقة الصارمة والسرعة الشديدة والإيجاز المعبِّر ويقول: لقد كانت مدرسة قاسية لأني التزمت بأن أُعدَّ بحوثاً في كثير من المجالات وأن أنقب عن الأشخاص الأكثر حنكة وأن أجري مقابلات وأن ألاحق تحريات وأن أُنظُم أفكاري وأعبِّر عنها في حدود المساحة المتاحة والمدة القصيرة المحددة فالعمل الصحي عملٌ ضاغط يتطلب الاهتمام الشديد والإنجاز السريع والعمق في الفهم والدقة في الأداء والإيجاز في التعبير والعناية بالسبق لكن مع الحرص البالغ للتأكد من الحقائق والتَّثَبُّتء مما يقال لتجنُّب الأخطاء وتحاشي المؤاخذات العاصفة. ثم أصدر أول كتبه بعنوان (مستهلكو الثقافة) وهو نقدٌ للنخبة المثقفة في الولاياتالمتحدة وتحليلٌ للفن من وجهة نظر اقتصادية ثم أعقبه بكتابه الثاني عن (المدرسة في المدينة) ثم أطلق قنبلته الفكرية التي هزت الدنيا وأيقظت العقول بإصدار كتابه (صدمة المستقبل) وهو يؤكد أن فكرة هذا الكتاب قد تكونت لديه أثناء عمله مراسلاً صحفياً لأنه بمتابعته للأحداث واهتمامه بأوضاع المجتمع ومنظماته وأحوال الناس قد لاحظ أن المجتمع الأمريكي يعيش تبدلات اجتماعية وثقافية وتقنية كبرى وسريعة وأن المسؤولين لم يفطنوا لذلك أو لم يهتموا به فهم مستغرقون بالآني فأراد أن يوقظ الأمة والقادة معاً لهذا الذي يجري لكي يكون المجتمع وقادته في حالة تأهب لهذه التحولات السريعة والاستعداد لها بما يلائمها من مؤسسات وأعمال وإجراءات من طرف كل القطاعات العامة والخاصة وبذلك يخف وقع الصدمة ويتجنب المجتمع الإخفاقات والانكسارات التي تنجم عن المفاجآت. صدر كتابه (صدمة المستقبل) عام 1970م وهو كتابه الثالث لكنه اللافت والمثير وبعد عشر سنوات أصدر كتابه الرابع (حضارة الموجة الثالثة) ثم بعد عشر سنوات أخرى أصدر كتابه الخامس (تحول السلطة) ثم كتابه السادس (حضارة المعلومات وما قبلها) وحُوِّل بعضها إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية وأجرى معه محررو (ساوت اند برس) لقاءات ساخنة مطولة صدرت في كتاب (خرائط المستقبل) وبذلك تكامل مشروعه الفكري المدهش وكل هذه الكتب مترجمة إلى اللغة العربية وبعضها له عدة ترجمات. ومع أنه لفَتَ الأنظار بكتابه الأول: (مستهلكو الثقافة) وأفردت له إحدى الصحف الكبرى صفحتها الأولى للإشادة به وتأكيد أهميته وصار بعده يُلقي المحاضرات ويشارك بالندوات إلا أنه بعد صدور كتابه (صدمة المستقبل) قد تبدَّلَتء حاله تماماً فصار شخصية عالمية ودوَّتء شهرته وامتد الحديث عنه إلى كل مكان فلقد قوبل الكتاب بأمريكا ثم في كل العالم بطوفان من الاهتمام والتداول والمناقشة وتُرجم إلى معظم لغات العالم وبيعت منه سبعة ملايين نسخة ومنحته فرنسا على الكتاب جائزة أفضل كتاب أجنبي وكتبت عنه الصحف والمجلات وقدَّمته وسائل الإعلام في جميع الأقطار وقرأه رؤساء الدول والسياسيون والمثقفون والمهتمون في الغرب والشرق وصار السياسيون يستشهدون بمقاطع منه في الخطابات العامة واهتمت به المنظمات والشركات والجامعات ومراكز البحث ومختلف المؤسسات فضلاً عن الأفراد الذين غمروا الكاتب باتصالاتهم وثنائهم. لقد أحسَّت الدنيا كلها بأهمية أفكاره فأصبح كما تقول (ساوت اند برس): أستاذاً ومحاضراً في عدد لا يُحصى من جامعات الولاياتالمتحدة واليابان وكندا وانجلترا وغيرها ودعاه الكونغرس الأمريكي لعرض أفكاره أمامه كما دعاه البيت الأبيض لنفس الغرض وتسابق الحزبان الأمريكيان (الجمهوري والديمقراطي) لخطب وده والاستفادة منه فألقى على غير المعتاد في يوم واحد خطابين مثيرين أمام المؤتمر القومي للجمهوريين وأمام المؤتمر القومي للديمقراطيين بخلاف تقاليد الحزبين كما دعاه المجلس التشريعي الياباني فألقى خطاباً هاماً وكذلك مجلس العموم البريطاني ودعاه الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه فخاطب المهتمين في موسكو ودعته الهند من أجل الاستفادة من أفكاره ورؤاه ووضعه الرئيس الماليزي السابق مهاتير محمد ضمن هيئة المشورة العليا في ماليزيا وفعلت مثل ذلك دول كثيرة كما حاضر بمعهد العلوم السياسية في هارفارد وحاضر في عشرات الجامعات في أقطار مختلفة من العالم وأجريت معه مقابلات تلفزيونية وصحفية لا عدَّ لها فلقد بات حديث الدنيا ولم يكن قد اكتسب هذه الأهمية من إعادة ترديد ما حفظه بالمدرسة أو الجامعة وإنما كان صاحب مغامرات فكرية ومبادرات عملية وصاحب فكر حر وخيال خلاق ولم يكتسب ذلك إلا بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق النابع من أعماق الذات. لقد اهتم بأفكاره رجال السياسة وعلماؤها وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد والمربون والإعلاميون ورجال التجارة والصناعة وكل المهتمين بشؤون الإنسان والتنمية لقد تكلم في كل القضايا المهمة المتباينة واهتم كل تخصص بما يعنيهم من أفكاره فلم يقل أهل كال تخصص بأنك دخيلٌ على المجال وإنما ناقشوا أفكاره باحترام واستفادوا منها بمنتهى الجدية والاهتمام بوصفه صاحب أفكار استثنائية وخلاقة هكذا هي الثقافات المفتوحة تستمطر السحاب أينما كان اتجاهه فلا تؤطر المبدعين ولا تستهين بالأفكار السبَّاقة أو تستنكرها وإنما تكافئ الأكفاء وتشجع المبدعين وترفع شأن الفكر والمفكرين إنها تستجيب لمبدعيها وبذلك واصلت التقدم وحققت الازدهار. لكن ما يجب تأكيده أنه لم ينل هذه المكانة الرفيعة إلا بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق إنه مدفوعٌ تلقائياً للبحث والاستقصاء والتمحيص إنه لا يبحث عن موضوع ليكون مجال اهتمامه وإنما اهتمامه التلقائي المتأجج هو الذي يشحن نفسه بالاندفاع ويملأ عقله باللهفة فالاهتمام المتوقد يفور من داخله فإذا أراد الكتابة في أي موضوع استغرق فيه استغراقاً كاملاً فلا يَدَع أي مصدر يُحتمل أن يجد فيه ما يفيد إلا بَحَث فيه وتأكَّد منه وبذلك يأتي بالجديد المفيد اللافت للأنظار فالكتاب الواحد يستغرق منه ما بين خمس إلى عشر سنوات فلكي ينجز كتابه (صدمة المستقبل) بَذَل جهداً كثيفاً وعميقاً ومتسعاً فارتاد كما يقول: عشرات من الجامعات ومراكز البحث والمعامل والمؤسسات الحكومية وقابلت مئات من الخبراء في مختلف النواحي وكان من بين من قابلت علماء حائزون لجائزة نوبل ومتخصصون نفسيون وهيبييون وأطباء ورجال أعمال ومستقبليون محترفون وفلاسفة ومعلمون. أما كتابه الرابع (حضارة الموجة الثالثة) فقد استغرق منه عشر سنوات كاملة تضاف إليها السنوات العشر التي انفقها في إنجاز كتبه: (مستهلكو الثقافة) و(المدرسة في المدينة) و(صدمة المستقبل) لأنها كلها تسير في اتجاه الرؤى العامة الجامعة القائمة على المعرفة الممحصة التي تتسم بالتنوع والعمق والاتساع والشمول أما كتاب (تحول السلطة) فقد استغرق منه أيضاً عشر سنوات وكذلك شأنه مع كتابه الأخير (حضارة المعلوماتية وما قبلها) إنه مهتمٌ اهتماماً تلقائياً إلى أقصى الحدود فيستقصي ويفحص ولا يترك مرجعاً متاحاً للمعرفة أو الخبرة أو الرؤية إلا استعان به وأخذ عنه إنه لا يعطي أهمية كبيرة للبيانات والأرقام الجاهزة فالمهم هو القدرة على إدراك شبكة العلاقات بين كل المعطيات إن الرؤية هي التي تحدد تفسير المعلومات والبيانات. إن تَحَرُّر الإنسان من الأفكار المسبقة هو الشرط الأهم للاستفادة من أية معطيات معرفية فالإنسان بطبعه وتنشئته كائنٌ متحيِّز ولا يخفف هذا التحيُّز سوى إحساسه الشديد بهذا التحيُّز وحَذَرُه التام من تأثيراته والعمل الصادق على تحييده. إن توفلر يرى أن التعليم أو الاهتمام الكمي بالمعلومات لا يؤدي بذاته إلى ارتقاء التفكير ولا امتلاك القدرة على حُسن الأداء ولا مهارة العمل فالأداء بكل مستوياته وأنواعه فنَ فرديَ فلابد أن يكوِّنه الفرد بنفسه لنفسه فهو نتاجٌ فردي مهما كان مجاله سواء في حقول العلم أم في حقول العمل أما المعلومات فمهمتها فقط توفير المواد لتشييد المعرفة وتكوين المهارة وبناء القدرة ويختلف التشييد والبناء اختلافات نوعية باختلاف البنَّائين فالمعلومات وحدها لا تخلق القدرة ولا تبني البصيرة ولكنها توفر المواد لبزوغ الموهبة وممارسة فن الأداء فالكفاية في العلم والعمل مصدرها ذاتي داخلي فردي لذلك فإنه رغم تشابه المعلومات التي يتلقاها الدارسون فإن تنويعات الأداء تتنوع بتنوع الممارسين. إن المعلومات هي مواد البناء لكنها ليست البناء ذاته. وهو يرى أن المجتمعات في العصور القديمة كانت تعيش متماثلة تقريباً أما في هذا العصر فإنها تعيش تفاوتاً هائلاً فبينما وثبت المجتمعات المزدهرة إلى مستوى الموجة الحضارية الثالثة فإن مجتمعات أخرى ما زالت تعيش في مستوى الموجة الحضارية الأولى بل إن بعضها ما زال من الناحية الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية يعيش في مستوى العصر الحجري بل أسوأ في تذويب الفرد وإفساد عقله وعواطفه وأخلاقه كما أن بعض المجتمعات المعاصرة معاقة جذرياً بثقافة الموجة الحضارية الأولى فهي ظاهرياً تعيش في هذا العصر لكنها حقيقة وواقعاً تعيش في مرحلة الموجة الحضارية الأولى أو ما قبلها إنها تستخدم ما أنجزه المزدهرون وتتجمل بها ومن هنا يأتي الالتباس الخادع وتأتي الصراعات الداخلية المستعصية ويشيع العجز عن التفاهم ويتكرس التخلف فالمجتمعات التي تكون فيها السيادة لثقافة الموجة الأولى لا يمكن أن تتقدم مهما تنوعت عندها مظاهر وشكليات الموجة الحضارية الثانية والثالثة فالمستفيدون من الأوضاع القائمة المتخلفة يستخدمون الابتكارات المتطورة لإبقاء الأوضاع كما هي إنهم يقاومون التغيير ويستنفرون معهم العامة لهذه المقاومة الشرسة فيستحيل التقدم. إن الفرد في مرحلة الموجة الحضارية الأولى مسلوب الإرادة وعديم الفاعلية وغير باحث عن الخيارات المتاحة ولا مدرك لوجودها ولا هو راغبٌ فيها فهو مبرمجٌ على أن يكون خلية ضمن جسم العشيرة أو المجتمع أو الطائفة أو المذهب وأي جرح لهذا الجسم يحسُّ أنه جرحٌ له فيقاومه بشراسة حتى لو كان جرحاً ضرورياً شأن العمليات الجراحية التي تستأصل الأورام الخبيثة أما الفرد في الموجة الحضارية الثالثة فإنه طليق الإرادة ومتأجج الفاعلية ومنفتح الوعي كما أن الخيارات أمامه متنوعة ومفتوحة وقد تربى على أن تطوير ذاته وتوسيع إمكاناته متوقف على جهده. إن الفرد في حضارة الموجة الأولى التي ما زالت تكبل شعوباً كثيرة مبرمجٌ ضد نفسه إنه يعيش دون أمل في التغيير ولا رغبة فيه ولا معرفة بالآفاق المفتوحة إنه يكدح من أجل لقمة العيش ويستميت في الدفاع عن أسباب بؤسه!! أما إذا كان واعياً بهذا البؤس فإنه يلزم الصمت ليتجنب النبذ ويسلم من البطش أما في حضارة الموجة الثانية فقد نما وعي الفرد واتسعت آماله وتنوعت مساعيه ومع أنه بقي يكدح كدحاً قاسياً ويعاني الغبن إلا أنه كان واعياً بهذا الغبن ويعمل على تغييره وهو موقن بإمكانية هذا التغيير أما في حضارة الموجة الثالثة فإن الفرد أصبح مالكاً لذاته ومتحكماً في كفاياته وشريكاً أو مالكاً لنتائج عمله وابتكاراته فالمعرفة الدقيقة والخيال الخلاق والمهارة العالية مؤهلات حاسمة في حضارة الموجة الثالثة وبذلك يتحرر الفرد من ارتباطه القسري بالآخرين ويُحقق ذاته وتنفتح الآفاق أمامه. إن مجتمعات الموجة الحضارية الأولى التي ما زالت قائمة في الكثير من أقطار الأرض تفرض التماثل على الأفراد فيبقون نسخاً مكررة فينعدم الإبداع وإذا بزغ في حالات استثنائية فإنه يُرفَض أما الموجة الحضارية الثالثة فتدفع الأفراد إلى التنوع والتغاير وتُنَفّرهم من التشابه والتماثل. إن التقدم في كل المجالات لا يتحقق إلا بالإبداع وهذا لا يتحقق إلا في بيئة حُرَّة تحتقر التنميط وتقاوم التماثل وتدفع إلى التميُّز وتكافئ على الاستقلال في الفكر والفعل.