أكتب في الصحافة السعودية منذ أكثر من عقدٍ ونيّف دون انقطاع، ويمكن القول إن أكثر من نصف مقالاتي كانت عن شؤون المملكة وقضاياها الداخلية والخارجية. بل إنني جمعت بعض تلك المقالات ونشرتها في كتابٍ بعنوان «سعوديات: مقاربات في الشأن السعودي»، طُبعَ بدورهِ في المملكة. هذا رغم حديثي عن كثيرٍ من القضايا، الحساسة منها أحياناً، في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وبطريقة تجمع بين نقد السلبيات وتأكيد الإيجابيات وطرح المقترحات، كما أراها على الأقل. رغم ذلك، لم أُمنع من الكتابة ولم أتعرض لمقص الرقيب، بمعنى الكلمة، طوال تلك الفترة. فمن أكثر من ثمانمائة مقال كتبتُها ونُشرت، تم الاعتذار مني، بلطفٍ وعبر الحوار، عن نشر مقالين، مرةً في الزميلة (الوطن) وأخرى في (المدينة) الغراء. وتفهمتُ في المرتين الأسباب. حتى أن بعض الزملاء الإعلاميين والصحافيين السعوديين سألني، خاصةً في بدايات كتابتي، عما إذا كان لدي «إذنٌ» خاص للحديث في بعض القضايا بالطريقة التي كنتُ أكتب فيها. لم يكن ثمة شيءٌ من هذا بالتأكيد، وإنما هو شعورٌ محسوبٌ بالآفاق الحقيقية الممكنة للكتابة، وبمحاولة الوصول إلى سقفها، بعيداً عن ممارسة الرقابة الذاتية المُبالغ فيها، والتي يقع فيها كثيرون. هذا بوحٌ شخصيٌ أستميح القراء في تسطيره مقدمةً لموضوع المقال، من باب أن التجربة الشخصية تبقى في النهاية منطلق حُكمي العملي على هذا الموضوع. ورغم أن الإجراءات الملكية الأخيرة، بما تحمله من دلالات وآمال، ومايمكن أن يترتب عليها داخل المملكة وخارجها، أوحت بكتابة المقال، غير أن فكرته كانت تراودني بشكلٍ متزايد منذ زمن، وإن كنتُ كتبتُ عنها بشكلٍ أقلَّ مباشرةً وتصريحاً. لكن الحديث فيها يبقى مطلوباً على الدوام، بحكم الدور المركزي الحساس والمتزايد للمملكة، وما يجري فيها، تأثيراً على حاضر العرب ومستقبلهم، وتأثراً بما جرى ويجري وسيجري في العالم العربي. إذ لا تبدو مقولة «المصير المشترك» هنا نظريةً بأي درجةٍ من الحسابات العملية المنطقية، وإنما تظهر كما هي عليه: حقيقةً أكيدة من حقائق التاريخ والجغرافيا/السياسية والاجتماع البشري. بالمقابل، ثمة شريحتان يبدو كأنهما متفقتان على مخالفة ذلك المنطق بعناد. فمن ناحية، نرى شريحة من العرب مهووسةً بهجاء السعودية، بأهلها وثقافتها وحكامها، بناءً على أحكام جاهزة، مبنية على المصالح حيناً والأيديولوجيا حيناً آخر، والجهل أحياناً، وبتعميمٍ شامل لايريد أن يرى فيها نقطةً بيضاء، حتى لو كانت تفقأ العين. ومن ناحيةٍ أخرى، تبدو شريحةٌ من السعوديين في وارد الدعوة إلى الانفضاض عن كل ماهو عربي، أشخاصاً وقضايا وهموماً ومجتمعات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفي كل المجالات الممكنة، بدعوى أن مشاكل المملكة كلها يمكن أن تُختزل في الانغماس بهمِّها العربي، ومتطلباته. وانطلاقاً من هذه المنهجية في التفكير، ترى الشريحة الأولى الكتابة عن المملكة تزلفاً إن لم تكن في معرض الهجاء، بينما تعتبر الشريحة الثانية الأمر نفسه «تدخلاً» غير مقبول، بغض النظر كلياً عن مضمون الكتابة تلك. ما يُطمئن، عملياً، أن حُكم الشريحتين ورأيهما كان ولايزال وسيبقى هامشياً. ببساطة، لأنه كما ذكرنا يُعاند، بشكلٍ طفولي، منطق التاريخ، وكل منطقٍ آخر يفهم طبيعة الواقع العربي المعاصر، بما فيه واقع السعودية، بل وطبيعة النظام الدولي وكيفية نظرته إلى المنطقة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. أن يقول العربي، وأن يقول السعودي: «لايمكن فك الارتباط على أي مستوىً وفي أي مجال بين العرب والسعودية» ليس من باب الشاعرية أو المثالية الطوباوية، وإنما هو تعبيرٌ بسيط دون تعقيد عن أمرٍ واقع وحقيقةٍ لايمكن تغييرها. وما من تحدٍ بأي حجم يكمن في رأي الهامشيين الوارد أعلاه، أياً كانوا. لكن الارتباط المذكور ليس علاقةً لفظيةً معلقةً في فضاء الأفكار. من هنا، فإن التحدي، بمعناه العميق، يكمن في استمرار المحاولة لإبداع سياسات وممارسات تفهم مكامن التكامل بين الطرفين، وصولاً إلى تحقيق مصالحهما التي لايبدو ثمة طرفٌ في هذه الدنيا، سواهما، مهتماً بتحقيقها على الإطلاق.