سافر على موجة أحزاني ورتَّب ظماي للبحر والبحر مالح.. وأنت عاشق غوى (*) نسافر من ملوحة البحر لعذوبة الشعر، تعصرنا موجة الحزن في منافي الوجع، فتكون الكلمات المعبر الوحيد للضفة الأخرى من الحياة، فهناك ظمأ يرتبه الحزن في ضفاف ملوحة تعلق العاشق في قناديل صوت صاخب لا تهدأ أمواجه المتلاطمة، كملهوفة التهمت الشباك كل أحاسيسها وأحلامها، فعندما يحزن البحر تصبح كل رموزه الموحية مفاهيم موجعة، تمتد كصور يدركها القلب، لتتحرَّك الحياة كخلاصة لروح شاعرها الذي حاك لواعجه الوجع، فحرَّكها بلغة شفيفية هي لغة الماء، فالماء هو اليقين بالإحساس، بالحياة، بالطيبة التي تعطي دون أن تأخذ، لتتمازج مع شخصيَّة الشاعر ويقينه، فهناك قلوب نقيًّة تعطي دون التفكير بنهاية العطاء، عطاؤها بسعة البحر، وأرواحها بطهر الماء، ونقاوتها امتزاج عجيب بين الحياة وبين العطاء، مفسحة المجال لعبقريَّة ثلاثيَّة تنمو وتتناسل، وكأنَّ لا انفصام بين أيٍّ من عراها، هو إذًا جوهر الحالة التي بدأت موجةً، وانتهت شعرًا يجيش زاخرًا بالوجع المثقل بالهدوء، لكأنَّ سهمَ الحزنِ مخفِيٌّ بين طيَّاته الصاخبة، ليلتهم حزنه، ويمتطي هامته، ويتلبَّس شراعه، بحرفيَّته، وفرادته، وليحوِّل ظمأه بحرًا يرتشف الوجع، يترجمه أمواج شعر، تسيل من قبضته القويَّة، حتَّى لو زحف على شفاه الموج لاحتمله وضمَّه بولهٍ عارمٍ، فالشاعر وحده مَن يكتب قصَّته يخبِّئها في خلجان كلها ملوحة، فهو يؤثر الغوص بها في لجج الغوى، كي نعيش معه هذا التصوير النفسي، كشعاع يطفو من مرافئ الحرف وبلغة بديعة، وإحساس مفعم بجذوات وجدانيَّة، تمتد صداها لأعماق قلب يخزن حزنه، ويواريه عن الأنظار، فهو ليس أيّ حزن، ذاك الذي يولد من لحظة خلاقة، وفجوة فسيحة، يتَّسع لها البحر ويسافر بها، يغوص في لجَّته، ويعود بالدر النفيس. ههنا الفكرة فارقة، تكسر المألوف لينثال منها ضوء الشعر وهَّاجًا، فحين شرب ماء البحر لا ليطفئ ظمأه، بل ليؤجِّجه، في نضالٍ سرمديٍّ بامتداد الشاطئ، بالتالي يمكنه أن يتحمَّل كلَّ ما سيقابله وبكيفية متأهِّبة لكلِّ احتمال. فالبحرُ غادرٌ ومتقلِّبٌ، لكنَّه يغدق مكنوناته الباذخة الجمال ما يستدرج به قلوبنا، ويفتح أبوابها إنْ نحن أخذنا بالحسبان طبيعته، واستعددنا له. في ومضة خاطفة، يخضع معها الشاعر للفعل وردَّة الفعل، فيستخرج اللؤلؤ واللجين من ثغر الألم، وزحمة الأمواج، فجاذبية البحر تأخذنا لجاذبيَّة الشاعر خارج نطاق القيد، وحدود الأسوار، مسطِّرًا تجربته بمداد الإبداع، وبلغةٍ رصينة، دافئة، شرب من يمِّها المالح، وأروانا بشهدها العذب، فذاب الملحُ في عسلِ الربيع، ورحيق الكلمات. * البيت للشاعر سالم عقاب