على مدى التاريخ حظيت مكَّة المكرَّمة بالحفاوة والتكريم من قِبل الباحثين والدَّارسين؛ كفاء مكانتها العظيمة، ونظير قدسيتها المطهرة، واستحقاقًا لمدِّها الحضاري والتاريخي التالد، فلا شرف لبلد عليها، وقد احضتنت أوَّل بيت وضع للناس، وفي هذا من الشرف والمكانة ما يجعل كل بقعة في الأرض دونها، وكل تاريخ أقل من قامتها المتعالية في سماء الخلود والمجد، وبلغت مكة كمال شرفها بإشراق النور المحمدي في ربوعها، واحتضانها لخاتمة الرسالات، ونزل الوحي في ربوعها.. وعلى هذا فلا غرو أن تستمطر الأقلام، وتستحلب المحابر في النهل من معين عظمتها، وتتسامق القامات شرفًا للكتابة عنها. ومن هذه النافذة الوضيئة جاء كتاب «معاد»، للأستاذ الدكتور بكري معتوق عساس، مدير جامعة أم القرى، ماتحًا من سنا مكَّة المكرَّمة.. وقارئ هذا السفر سيلمُّ بطرف ممَّا احتواه إن مر على «تقديم» الكتاب الذي خطَّه قلم الأستاذ الدكتور علي بن عباس الحكمي، عضو هيئة كبار العلماء، والمدرس بالمسجد الحرام، قائلاً: «.. لقد طوَّف الدكتور في هذه الباقة عن مكَّة في مدار مديد، وحلَّق عاليًا في الأفق البعيد، تحدَّث عن البيت الحرام، عن منزلته عند ربه، وعن بداية وجوده، وأوَّليته كأول بيت وُضع للناس، وعن شيء من تاريخه وجلاله وجماله، وعن علاقته بخاتم الرسل وخاتمة الرسالات، وعلاقة مكَّة المكرَّمة بالقرآن الكريم، وما نزل فيه من السور والآيات، وعن حب الناس للبيت وتعظيمهم إيَّاه، وعن أهل مكَّة الذين شرفوا بجوار بيت الله، وعن عاداتهم القديمة الجميلة، وعن أوَّليات مكة في الحضارة والعمارة، والتعليم والاقتصاد، وعن عمارة المسجد الحرام في العصور المختلفة، وبخاصَّة في العهد الزاهر عهد المملكة العربيَّة السعوديَّة التي يشرف ملوكها بلقب خادم الحرمين الشريفين، حيث مهبط الوحي، ومنبع الرسالة، ومثوى أشرف الرسل وأكرمهم عند الله». كما أنَّ المؤلِّف نفسه في مقدمته أشار إلى النهج الذي اتَّخذه في تأليف كتابه، بقوله: «... بدا لي بعد رحلة طويلة مع الكتابة أن أستخلص ما كتبته عن مكَّة، وأجمعه في كتاب، علَّه أن يكون نوعًا من الوفاء والعرفان لهذه المدينة المقدَّسة التي أعطتني الكثير، وحُقَّ لها منِّي الوفاء ولو بأقل القليل.. راجعتُ المكتوب فوجدتُ قدرًا كبيرًا من المقالات، فنظرت فيها، واخترت منها، ثم رجعت لما اخترته فحررته ونقحته، وخرَّجت آياته وأحاديثه، وربما عدَّلت في صياغته بما يلائم الوضع الجديد، فكان من ذلك خمس وعشرون مقالةً ضمَّنتها هذا الكتاب الذي لم أتحدَّث فيه عن غير مكَّة شرَّفها الله». ويضيف عسّاس، كاشفًا عن سبب تسمية كتابه ب»معاد»: وقد اخترت أن أسمِّيه (معاد) اقتباسًا من قول المولى جلَّ جلاله في الآية (85) من سورة القصص: (إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَليْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إلىَ مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِيْنٍ). في ضوء هذين التقديمين تنفسح صفحات الكتاب، الذي آثر المؤلِّف أن يجعل شطره الأول باللغة العربيَّة في (77) صفحة من القطع المتوسط، والشطر الآخر بالإنجليزيَّة في (94) صفحة، وفصل بينهما ب(12) من صور تحكي محبَّة الناس لبيت الله الحرام، ومكَّة المكرَّمة، وتوافدهم قديمًا وحديثًا لرحلة الحجة إلى الكعبة المشرَّفة.. يستهل «عساس» كتابه بمقال تحت عنوان «إنَّها مكَّة وكفى»، سائحًا فيه بين وديان المحبَّة في ربوع مكة، بلغة شاعريَّة مليئة بالشجن، ومترعة بالوجد الخالص لأطهر بقعة في الأرض، وعلى هذا المنوال تمضي بقية مقالات الكاتب في نسق مطَّرد، فتقرأ عن علاق مكَّة بالسماء، وبالقرآن، وكيف أنَّها أجمل مدن العالم، ووثيق صلتها بالمدينة المنوَّرة، ووصيَّة الحسن البصري عنها، وأجر المقام بها، وشرف المسؤوليَّة عنها، وما نالته من حظوة الأمن والأمان على مر الدهور والأزمان، ولمحات من القرآن المكيِّ والآيات التي نزلت بسوحها، وكيف أنَّها مثابةٌ للناس ومهواهم، وصورة أم القرى في قلوب غير المكيِّين، ولمحة عن جبال النور بها، وخادم الحرمين الشريفين، ومفخرة أم القرى، ولمحات من التعليم في ربوعها، وسطور عن تاريخ الصحافة المكيَّة، مختتمًا بعرض صورة لمكَّة وارتباطها بالاقتصاد الإسلامي. يُشار إلى أن الدكتور بكري عساس قد وقَّع كتابه «معاد» في معرض جدَّة الدولي للكتاب، الذي اختتم دورته الأسبوع الماضي.