أثارت حادثة انتحار عضو هيئة تدريس مشهور في جامعة أم القرى بمكة المكرمة المحزنة والمفجعة العديد من التساؤلات، البعض منها صبغته شخصية بحتة وهذا لا يهمني هنا ولا يمكن الحديث عنه إلا من قبل المقربين للرجل العارفين به وبوضعه النفسي والاجتماعي و... وإن كان الجميع يدين هذا السلوك وينظر إليه على أنه لا يليق أن يصدر من مسلم أياً كان، فما بالك بخاصة الخاصة!!، والبعض الآخر من التساؤلات له مساس وعلاقة مباشرة بالمجتمع الأكاديمي والعلاقات الإنسانية بين أفراد هذا المجتمع الذي ينظر إليه الكثير منا على أنه مجتمع مثالي تسود فيه القيم الإنسانية الطيبة وتربط بين أعضائه وشائج الحب والمودة والإخاء، وهذه النظرة الإيجابية الرائعة والتي هي محل افتخار وتقدير من منسوبي هذا الكيان العزيز (الجامعة) ترتكز على معطيات عدة وتقوم على مبررات كثيرة أهمها المستوى العلمي الذي وصل إليه جل أفراد هذا المجتمع، فغالبيتهم من حملة الدكتوراه وربّما الأستاذية والمعادلة الطبيعية في أذهاننا أنه متى ما ارتقى الإنسان علمياً جزماً سيرتقي أخلاقياً وسلوكياً، إضافة إلى أن الوضع الاقتصادي الجيد الذي يتمتع به عضو هيئة التدريس، علاوة على انفتاح أفراد هذا المجتمع على العالم الخارجي سواء أثناء الدراسة أو من خلال المشاركة في المؤتمرات والندوات والدورات، وكذا النظرة المجتمعية الإيجابية لجميع المنتمين إلى زمرة الأكاديميين، والتجدد الدائم في حياة الأكاديمي، وانشغاله بالبحث والدراسة والكتابة، وعدم وجود الفراغ في برنامجه اليومي كما هو الحال عند غيره، و... هذه المعطيات وغيرها كثير كلها عوامل جعلتنا في مجتمعاتنا المحلية ننسج صورة مثالية عن هذا المجتمع الفرعي الذي يتقاطع في بعض سماته مع مجتمعنا الأساس، ومع أنني أعرف عن قرب أن المجتمع الأكاديمي يختلف عن غيره من المجتمعات الفرعية التي تشكل مجتمعة شخصيتنا وتأسس لهويتنا إلا أن فيه من السلبيات ما يجعلك أحياناً تتساءل بحرقة ومرارة عن سبب ذلك وسر وجوده في بيئة يفترض أن تكون حاضنة للقيم، مربية على السلوك المتميز قائدة للمجتمع معرفياً وأخلاقياً.. إن غياب القيم الجماعية وسيطرة ال(أنا) في أي مجتمع هي باختصار سبب لفساده وضعف إنتاجيته وتشتت جهوده وغياب الألفة والمحبة بين أفراده، وحتى لا أكون انطباعياً في إسقاط الأحكام أتمنى من القارئ الكريم أن يمر بذاكرته سريعاً على البيئة الأكاديمية في كثير من جامعاتنا السعودية وإن أعجزه ذلك أو كان بعيداً عنها فله مطلق الصلاحية بأن يستعين بصديق له خبرة ودراية ويعيش في وسط هذا المجتمع الصغير، إن التنافسية التي من المفترض أن تكون عامل بناء وعنوان حب ووفاء لهذا الكيان الذي فتح الباب على مصراعيه للجميع ولدت هذه المزية وللأسف الشديد الحسد والضغائن.. وهذا الداء كما يعلم الجميع باب كل شر وفرصة ذهبية أمام الشيطان، ومع الزمن وبسبب الفرص الذهبية التي تمر بها جامعاتنا السعودية اليوم صارت الشللية الطابع الأساس لبعض الأقسام، بل هي السمة الأبرز في عدد من الكليات وربّما الإدارات العليا في بعض الجامعات، تلحظ هذا المثلب القاتل عند القيام ببحوث مشتركة مدعومة مادياً وبمبالغ مغرية، أو حين الترشيح لمنصب إداري مرموق، أو حضور مؤتمر تخصصي، أو ندوة خارجية، أو تمثيل علمي، أو عند توزيع الأنصبة التدريسية، أو الإشراف الأكاديمي على طلاب الدراسات العليا، أعلم أن في هذا تجريحاً لنفسي فما أنا إلا عود في حزمة، وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد، نعم هناك جهود تبذل من قبل البعض في عدد من الكليات والأقسام لإذابة الجليد وإشاعة روح الإخاء بين الأعضاء من خلال تقوية الأواصر والروابط الاجتماعية بصورة شخصية، ولكن هذا الجهد المبذول محدود للغاية ولا يمكن أن يحقق المطلوب لأنه باختصار جهد فردي مشتت، وأعتقد أن من الحلول الناجزة تفعيل نشاط أعضاء هيئة التدريس وفتح أندية رياضية وقاعات تدريبية تجمع الأكاديميين خارج أسوار كلياتهم وبعيداً عن قاعاتهم الدراسية وفي مثل هذه الأجواء الصحية تختصر المسافات وتقوى العلاقات وتتقارب النفوس وتشترك الهموم وترتقي الزمالة إلى صداقة حقيقية وبها نصل بإذن الله إلى المجتمع الأكاديمي المنشود.. وإلى لقاء، والسلام.