استوقفني وأنا أقرأ كتاب مذكرات الأميرة بديعة ابنة الشريف علي بن الحسين بن علي إحدى أميرات الأسرة الهاشمية الحاكمة في العراق قبل ثورة عبد الكريم قاسم.. موقف من تلك المواقف السعودية النبيلة ظل سراً من الأسرار إلى أن أعلنه الطرف الأخر بنبرة من الوفاء والعرفان.. يعود ذلك الموقف إلى يوم الاثنين الموافق14(تموز) يوليو 1958م، وهو اليوم الذي استيقظت فيه بغداد على مذبحة شنيعة راح ضحيتها جميع أفراد الأسرة الهاشمية المالكة في العراق على يد ثورة حزبية انقلابية نفذت مجزرة قصر الرحاب، وأحرقته بمن فيه من أفراد أسرة الملك فيصل الثاني رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً. لم ينج من تلك المذبحة الشنيعة إلا صاحبة المذكرات وزوجها الذين نجوا بأعجوبة.. ولأن الانقلابيين كانوا يتعقبون أفراد الأسرة الهاشمية للفتك بهم، فقد كان على الأميرة بديعة وزوجها الشريف حسين بن علي الهروب من مسكنهم واللجوء إلى جهة تحميهم من بطش الانقلابيين، فقضوا يومهم الأول لدى صديق لهم مخاطرين بحياته وحياتهم.. ونستمع لصاحبة المذكرات وهي تسرد القصة: (...في الصباح (15 - تموز 1958م) اقترح زوجي الشريف حسين أن نلجأ إلى سفارة المملكة العربية السعودية كآمن مكان لنا، لأنه لم يكن باستطاعتنا اللجوء إلى أي مكان آخر، فلا سفارة أردنية، والانقلابون دخلوا السفارة البريطانية، ولا ندري ماذا حل بالسفارة الأمريكية). ثم تذكر بعد ذلك أن أحد أصدقاء العائلة واسمه (عبد القادر رانية) أوصلهم السفارة السعودية في الصباح الباكر وهم في حالة يرثى لها من التوتر والارتباك، وتواصل سرد قصتها: (... قادني بواب السفارة إلى الصالة، فجلست منكسرة منحنية على أحد المقاعد... رفعت رأسي وإذا بي قبالة صورتين، لم يخطر في بالي مطلقاً بأنني سأجلس أمامهما يوماً (واحدة الملك عبدالعزيز آل سعود وأخرى لولده الملك سعود). دخل الخادم وسألني: من أنت يا سيدتي؟! طأطأت برأسي حرجاً؛ لم أعرف كيف أرد، خانني التعبير.. استعصت علي الإجابات وبتردد: (أنا خالة الملك فيصل الثاني، وأخت الأمير عبد الإله). ارتعدت فرائصه، اضطربت معاني محياه... ثم فر ينادي على السفير.. نزل (إبراهيم السويل) من الطابق العلوي لاهثاً.. لكنه ما إن وقع بصره علي حتى هدأ. لم يتفوه بكلمة، لأنه كان يدرك حجم ما جرى ببغداد يوم أمس من مأساة.. أخبرته أن زوجي الشريف حسين هو الذي أرسلني وأنا الآن في انتظاره.. هزته كلماتي.. اغرورقت الدموع في عينيه، وهو ينظر إلى بتأمل.. ثم تركني وذهب، ربما ليتصل بحكومته. ثم تصف بعد ذلك احتضان السفارة السعودية لهم شهرا ًكاملاً، ونجاح السفير السعودي في حمايتهم وإخفائهم عن أعين الانقلابيين وجواسيسهم.. ثم تواصل حديثها تحت عنوان: موقف سعودي لا ينسى!: (واصل زوجي لقاءاته بالسفير السعودي، وعلمت بعد أيام بأن الملك سعود بن عبدالعزيز، قد جعلنا كلنا على عاتق سفيره ببغداد. أمره أن يحافظ علينا بأي ثمن، فنحن في ذمته وبرقبته، وإن وقع لنا أي مكروه فسوف يتحمل ذلك). ثم تثني صاحبة المذكرات بعد ذلك على معاملة آل سعود لعائلتها ومسارعة آل سعود إلى طي صفحات الماضي رغم ما حصل في تاريخ الطرفين من تأزم.. ثم تقول: (وبعد الانقلاب سافر زوجي من جنيف إلى الرياض لمقابلة الملك سعود والتشكر منه، في الوقت نفسه طلب منه جوازاً سعودياً، وإذا بالملك سعود يتطوع لإبداء موقف مشرف آخر، فيتعهد لزوجي بأنه على استعداد لتعويضه عن كل ما خسره كاملاً! فشكره الشريف على مشاعره الصادقة وعرضه السخي ذاك بالرغم من أن إمكانات المملكة عام 1958م، ليست كما إمكاناتها اليوم، إلا أنهم وقفوا ذلك الموقف المشرف معنا، بينما لم يقف مثلهم وموقفهم آخرون من أقرب الناس إلينا!). وأكتفي بهذه العبارات التي نقلتها باختصار شديد لضيق المساحة.