قد يتفق الباحثون في العلاقات الدولية المعاصرة أن أهم مصطلح دخل للعلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة هو مصطلح العولمة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية والايديولوجية.. الخ، ولقد كان سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو والمنظومة الاشتراكية الدولية وظهور دول جديدة ولدت من تفكك الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغسلافي كلها عناوين لنهاية حقبة مهمة من تاريخ العلاقات الدولية في القرن العشري . أعقبت الحرب العالمية الثانية وامتدت إلى عام 1990م أي مدتها بالكاد خمسة وأربعون عاماً، ومثل كل ذلك إعلانا صريحاً بولادة النظام الدولي الجديد ومصطلح العولمة الذي تولت الولاياتالمتحدة قيادته منفردة ولتسم النظام الدولي بصفة الأحادية القطبية، وقد رأى فيه كثير من الدارسين للعلاقات الدولية ان انهيار النظم الاشتراكية وتداعيها كان نصرا للنظم الرأسمالية العالمية بدون حرب مباشرة وإنما جرى الاعتماد فيها على الحروب بالوكالة بالإضافة إلى تنمية عوامل التطور في النظام الرأسمالي وتجمد النظم الاشتراكية، ذلك ما أكسب الرأسمالية العالمية التفوق بالنقاط على المنظومة الاشتراكية، وقد تباهى بهذا الانتصار أنصار المذهب الليبرالي الحر بعظمة المذهب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا. وقد نظر الرأسماليون للعولمة باعتبارها مرحلة متطورة جديدة من مراحل التطور الرأسمالي وعلى جميع القرى من دول ومجموعات أفراد أو أحزاب أن يستوعبوا هذه المرحلة وأن يكيفوا أنفسهم مع قيمها ومبادئها، لأنه يكمُن فيها التطور والأمن والسلام وغيره مما يجعل حياة الدول والأفراد أكثر رفاهاً وتقدماً، وهنا نستطيع أن نقول ان العولمة بدأ يتنازعها تياران على المستوى الرأسمالي العالمي تيار (يدعو إلى لبرلة العولمة) والمتمثل في الداعين إلى نشر مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية واقتصاد السوق بواسطة الوسائل السلمية والمؤتمرات والاتفاقيات الدولية والدبلوماسية البرلمانية عبر تقوية أجهزة مؤسسات الأممالمتحدة، وتيار آخر نستطيع ان نسميه (تيار عسكرة العولمة) وتزعمته الولاياتالمتحدة بقيادة المحافظين الجدد وخصوصا ولايتي جورج بوش الابن الذي أعلن الحرب الشاملة على الارهاب خصوصا بعد حادث 11 سبتمبر 2001م فشن حربين مدمرتين الأولى على أفغانستان والثانية على العراق لازالت الولاياتالمتحدة تغرق في مستنقعاتهما، ورافق ذلك أيضاً إضفاء مسحة دينية على السياسة الليبرالية المعولمة بحيث أصبح يعتقد الرئيس بوش الابن انه رسول العناية الإلهية لتخليص البشرية من الإرهاب ومن قوى الشر التي تهدد الحضارة الإنسانية ومثلها وقيمتها الغربية المتمثلة بمثل وقيم الولاياتالمتحدةالأمريكية القائمة على اعتبار العالم بأجمعه شرقا وغربا سوقا رأسمالية واحدة تحكمها اتفاقية التجارة العالمية واستحقاقاتها وإملاء شروطها على الدول كافة والتي عليها أن تؤهل نفسها كي تتمتع بعضويتها. وقد وصف المعارضون للعولمة هذه التوجهات (بالميجا امبريالية) التي تفوق في غطرستها وسيطرتها وكافة أشكال الامبريالية التقليدية، ولكن وللأسف لم تستطع القوى المناهضة للعولمة وللميجا الامبريالية ان تقدم تصورا مضادا أو متوازيا مع تصورات العولمة النهضوية والتنموية سواء على مستوى تنمية الفرد أو تنمية الدول واكتفت بالمعارضة تحت حجج كلاسيكية تقوم على أساس التشبث بمبدأ السيادة الوطنية وما يتفرع عنه من خصوصية لكل دولة أو مجتمع، وغرقت كثير من القوى النهضوية المعارضة للعولمة في بحور الأصولية الدينية والتي استنهضتها خيبات الأمل المتوالية وأثارتها أيضاً شعارات تديين السياسة والحروب التي أطلقها المحافظون الجدد وقد عجزت هذه القوى عن تقديم رؤاها المتكاملة المضادة للعولمة ووسائلها وأهدافها واختارت الانكفاء على الذات دون تقديم بديل مقنع للعولمة، ووجدنا في عالمنا العربي والإسلامي هذه القوى الأصولية تتصدر حركة الجماهير وتجر معها بقايا القوى اليسارية والقومية والعلمانية التي ربطت مشاريعها النهضوية أثناء الحرب الباردة بالنموذج الاشتراكي، فأصبحت يتيمة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية لتغرق في توجه الأصوليات الدينية التي وجدت فيها تعبيراً عن عدائها التقليدي مع الرأسمالية الجامحة لأنها افتقدت القدرة على إعادة صوغ برامجها النهضوية التطورية لمجتمعاتها التي ناضلت من أجلها على مدى عقود الحرب الباردة بل تحول بعض أقطاب اليسار إلى منظرين للقوى الأصولية ومدافعين عن معاركها رغم افتقادها هي الأخرى لتصورات عملية بديلة للعولمة سوى انها تمتلك شعارات ذات قدرة تعبوية وتحشيدية للجماهير الفقيرة، ذلك ما أدى إلى تداخل وتشابك ساحات الصراع الدولي دون وضوح للحدود الفاصلة بين جبهات الصراع بل وفي كثير من الحالات تتداخل ساحات الاشتباك دون تمييز، فكلا جبهتي الصراع تخدم كل واحدة منها الأخرى مما زاد في تعقيد الصراعات الدولية في ظل العولمة، ومع نهاية العقد الثاني من عمر النظام الدولي الجديد تبخرت الأحلام الوردية التي بشرت بها وسوقتها للعولمة للعالم أجمع حيث وقع العالم الرأسمالي ومعه اللارأسمالي في أزمة اقتصادية هي الأعظم منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي شهدها العالم في العام 1929م لتضع نظام العولمة الاقتصادية وبالتالي السياسية والثقافية أمام أزمة جديدة ونوعية دفعت دول المذهب الليبرالي الحر للقفز على مبادئ المذهب الأساسية في دفع الدولة للتدخل المباشر لإنقاذ اقتصادياتها ونظمها المالية وتتحول الدولة مع هذه الأزمة من دولة حارسة للاقتصاد القائم على اقتصاد السوق إلى دولة متدخلة ودولة شريكة على مستوى المؤسسات المالية والصناعات الأساسية بالإضافة إلى توسيع خدمات الدولة الاجتماعية وزيادة مصاريف التعويضات عن البطالة التي أخذت تربو على نسبة عشرة في المائة في كثير من الدول. من هنا يأتي طرحنا للسؤال العولمة إلى أين في عهد أوباما الرئيس الجديد للولايات المتحدة والذي مثل وصوله لرئاسة البيت الأبيض الحديث الأبرز في ظل هذه التداعيات على مستوى الولاياتالمتحدة وعلى مستوى العالم لأن الجميع ينتظر التغيير للأفضل ومواجهة السلبيات التي خلفتها العولمة (والميجا امبريالية) على مستوى أمريكا والنظام الرأسمالي العالمي وعلى مستوى العالم أجمع، ولا شك في أن الرغبة في التغيير قد جاءت في أمريكا جذرية إذ لأول مرة يصل إلى الحكم فيها رئيس من الأقلية ذات الأصل الافريقي ويحمل أفكاراً تعبر عن رغبة الشعب الأمريكي في التغيير وفي مواجهة الأزمة المالية ومعالجة حروب الميجا امبريالية والأزمات التي خلفتها وشوهت من خلالها السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية. إن معالجة هذه الآثار وهذه التركة الثقيلة تحتاج إلى حنكة بالغة وجهد كبير وإصرار أكيد وتكاليف باهظة كي تستعيد الولاياتالمتحدة توازنها الاقتصادي وتعيد لعجلتها الاقتصادية مستويات تطورها ونموها المطرد ومعها مختلف اقتصاديات دول العالم التي انعكست عليها الآثار السلبية لهذه الأزمة الاقتصادية المدمرة، بالإضافة إلى معالجة آثار الحروب التي شنتها الولاياتالمتحدة سواء باسم مواجهة الإرهاب والأصوليات أو نشر الديمقراطية والقيم الليبرالية والتي كلفت أمريكا وبقية شعوب العالم أرقاماً فلكية من الدولارات كان من الممكن لو أنفقت على تنمية اقتصاديات الدول المتخلفة لأوصلتها إلى حالة من التقدم والتطور تستطيع معه أن تواكب متطلبات العولمة واقتصاد السوق الواحد عالمياً، فإدارة الرئيس أوباما مطالبة اليوم أمريكيا وعالميا ان تتخلى أولا عن مبدأ (عسكرة العولمة) وان تتوجه نحو الأخذ بمبدأ (لبرلة العولمة) والسعي بالطرق السلمية والدبلوماسية واستخدام القوى الناعمة لإرساء سياسات العولمة، وان تعمل على إنهاء كافة الحروب التي بدأتها الإدارة الغابرة للمحافظين الجدد ودفع التعويضات اللازمة للشعوب والدول التي تضررت من تلك الحروب وفي مقدمتها الشعب العراقي والشعب الأفغاني وحل كافة القضايا الدولية العالقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وقضية مواجهة انتشار السلاح النووي بالطرق السلمية التي من شأنها ان تجعل المناطق الحساسة في العالم خالية من أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها الأسلحة النووية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط التي تطرح فيها هذه القضية اليوم والتي زادها توترا امتلاك إسرائيل لأكثر من مئتي رأس سلاح نووي ومحاولات إيران الجارية لامتلاك هذا السلاح الرادع لتحمي نفسها ونظامها. وإننا نعتقد ثانية ان على الرئيس أوباما ان يحرر السياسية الأمريكية وخصوصاً منها الخارجية من صفة التدين الذي أضفاه عليها سلفه وأجج بها الأصوليات الدينية على اختلافها وأذكى فيها نار التعصب والغلو والتطرف خصوصاً في حرية على العراقوأفغانستان وفيما يعرف بالحرب على (الإرهاب الإسلامي) ويبقى التساؤل مطروحا إذا كانت الرغبة جادة لدى إدارة الحزب الديمقراطي وعلى رأسها الرئيس أوباما بالتغيير أم لا وبمعالجة هذه الأزمات التي أصبحت تعصف بأمريكا مثلما تعصف بالشعوب الأخرى التي تضررت ودفعت الثمن غالياً من أمنها واستقرارها ومستقبل أجيالها القادمة. إنني أعتقد ان الحاجة الأمريكية أولا والدولية ثانيا للانقلاب على سياسات العولمة السابقة ستدفع الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس أوباما لمثل هذا التغيير الذي لن يكون بالضربة القاضية، لأن التغيير المفاجئ قد يحدث صدمة ارتدادية على مستوى الثقافة والسياسة والاقتصاد والعسكر، وسيكون الاختبار للتغيير في التعاطي مع القضايا المتفجرة وفي مقدمتها فلسطينوالعراقوأفغانستان وقضية النووي الإيراني، وسوف يكون انعكاس التغيير في سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية على قضايا منطقتنا الشرق أوسطية أهم مؤشر يقاس فيه مقدار التحول والتوجه نحو إرساء قواعد جديدة للنظام الدولي الجديد تؤدي به أن يكون نظاما أكثر عدلا وتوازنا واستقرارا وأمنا لصالح الجميع. E-mail: [email protected]