"نهاية التاريخ"؟ ليست هناك أية آثار أقدام تدل على وجودها. لا بل يبدو العكس صحيحاً. فمنذ ان بشّر فرانسيس فوكوياما في أوائل التسعينات بهذه النهاية، معلناً النصر الأخير والحاسم للرأسمالية الليبرالية خصوصاً في طبعتها الانغلو - ساكسونية على كل خصومها ومنافسيها، والدلائل لا تني تتراكم عن أن ثمة في الواقع بدايات، لا نهايات، لهذا التاريخ. أحدث هذه الدلائل ظهرت قبل أيام في فنزويلا. هناك، وفي حضن تلك الحديقة الخلفية لأميركا، كان رئيس ينتمي الى الهنود الحمر بسلالته وشكله ولونه، يحقق النصر في الاستفتاء الشعبي ضد كل خصومه "البيض" الكثر الموالين لواشنطن، ويكرّس استمرار تجربة "لا رأسمالية" جديدة في اميركا اللاتينية. لا بل أكثر: ثمة من يقول الآن ان هوغو شافيز اليساري، قد يحقق أيضاً أسوأ كوابيس ادارة جورج بوش اليمينية المتطرفة: جعل حاضر فنزويلا نموذجاً لمستقبل شعوب العالم الثالث. وقلق بوش في محله. فهذه الدولة النفطية الأميركية اللاتينية تسبح الآن، وبشكل خطر، عكس التيار الذي أنجب "نهاية التاريخ": هي فنزويلا تعلن أن هذا "النهائي" ليس نهائياً بالضرورة، وأن الاشتراكية المغمّسة بإكسير الديموقراطية لا تزال خياراً قوياً وجذاباً. وهو التيار يقول إن السوبر أغنياء هم الذين يجب أن يرثوا العالم لينشروا العولمة والرخاء والتقدم التكنولوجي. وحين يسعد هؤلاء يبتسم الاقتصاد. هي فنزويلا تقول إن الفقراء هم العنوان الحقيقي الذي يجب ان يسير نحوه النمو الاقتصادي والاكتشافات العلمية. وهو التيار يقول إن وصفات "إجماع واشنطن" حول تحرير السوق وإطلاق حرية الرأسماليين المحليين والاجانب، يجب أن تكون الشعار الجديد للجميع. بيد ان شافيز، ومنذ وصوله الى السلطة بقوة الديموقراطية العام 1998، لا يفعل شيئا في الواقع سوى ضرب عرض الحائط بكل وصفات "إجماع واشنطن"، وتعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فهو وجّه عائدات النفط نحو برامج اجتماعية جديدة، ومشاريع انسانية لا عد لها ولا حصر في كل انحاء البلاد، ما أعاد الى الأذهان أجواء السنوات الاولى من الثورة الكوبية. كما أنه أطلق خططاً طموحة لمكافحة الأمية، وتوفير المدارس لمئات آلاف الاطفال واليافعين ومواجهة البطالة وتوفير الطعام الرخيص ونشر الخدمات الصحية في الريف والمناطق الفقيرة من المدن بمساعدة 10 آلاف طبيب كوبي. إضافة الى تحويل العديد من مباني شركات النفط الى جامعة للفقراء، وإقامة قناة فضائية تلفزيونية ثقافية لمقارعة الاعلام الاميركي الاستهلاكي - التجاري في كل انحاء أميركا اللاتينية. والأدهى بالنسبة إلى واشنطن بالطبع أن شافيز قرر بيع النفط الفنزويلي بسعر مخفض الى بعض دول أميركا اللاتينية الفقيرة. وهذا ما حولّه بين ليلة وضحاها من بطل قومي فنزويلي الى بطل قومي أميركي لاتيني. بالطبع، لم تقف الولاياتالمتحدة مكتوفة اليدين. فمنذ العام 1998 والاجهزة الأميركية المعنية تبذل المحاولة تلو الاخرى للتخلص منه : في نيسان ابريل 2002 محاولة انقلاب عسكري على الطريقة الفاشية التشيلية. في كانون الاول ديسمبر 2002 محاولة انقلاب اضرابية نفذها رجال الأعمال في شركة النفط وباقي القطاعات المنتجة. إضافة الى عدد لا بأس به من محاولات ال"سي آي ايه" لاغتياله بالسم أو الرصاص أو بكليهما. بيد أن كل هذه المحاولات فشلت بسبب الطوق الذي كان يلقيه الشعب لشافيز في كل مرة تحاصره أسماك القرش الرأسمالية المحلية والأميركية بهدف خنقه. وهذا ما حدث بشكل فاقع العام 2002، على سبيل المثال، حين قامت الجماهير وصغار الضباط بمحاصرة دبابات الانقلابيين التي كانت تحاصر شافيز. وهذا ما حدث في استفتاء 15 آب اغسطس، حين صوّتت غالبية الفنزويليين الى جانب بقاء شافيز في السلطة حتى انتخابات 2006. القطة الصينية بالطبع، هذا لا يعني أن شافيز نفد بجلده من براثن الأسد الأميركي الحانق، أو أن المحافظين الجدد الاميركيين على وشك قبول وجود فيديل كاسترو آخر في فنائهم الخلفي. فالحرب ستتواصل ضده، وبكل أنواع الاسلحة، خصوصاً في خضم الحملة العالمية التي تشنها واشنطن حاليا للسيطرة على كل نفط العالم. وفي النهاية قد تنجح الدولة الكبيرة في وضع حد لتمرد هذه الدولة الصغيرة وفي إعادتها الى قفص نظامها الامبراطوري. لكن، هل هذا النجاح المحتمل، لا يعني نجاح "نهاية التاريخ". الدليل؟ إنه موجود في الصين! فهذا العملاق الآسيوي المستيقظ، نجح خلال العقود الأخيرة في تطوير برامج تنمية تصح كنموذج للعديد من دول العالم الثالث. إذ انه بلور "اجماع بكين" وأدار الظهر لما يسمى "اجماع واشنطن" الذي وضعه اقتصادي البنك الدولي جون وليامنسون وأدى الى إفلاس دزينة دول، بسبب تركيزه الشديد والكلي على أولوية إزالة كل العقبات أمام الرساميل الخارجية إقرأ رساميل الشركات المتعددة الجنسية. "اجماع بكين"، كما يوضح جوشوا كوبر رامو في دراسة مهمة نشرها أخيراً في "مركز فورين بوليسي سنتر" البريطاني، هو مقاربة لا تسعى لإسعاد المصارف الكبرى، بل لتحقيق ثلاثة أهداف في آن: 1- معدلات نمو عالية المستوى، استناداً إلى عمليات حذرة في مجال الخصخصة وتحرير التجارة، وعمليات حذرة أكثر على مستوى التغيير السياسي. 2- اندفاعة قوية في مجال الابداع والتطوير والتجريب. 3- الحفاظ وهنا الأهم على الاستقلال القومي. لقد أعلن رئيس وزراء الصين ون جياباو، خلال جولته الاخيرة في أوروبا، أن الصين لم تعد تركز على نمو الناتج المحلي الخام وحده كما يتطلب "اجماع واشنطن"، بل أيضاً على نمو يكون صديقاً للبيئة ومعادياً للفساد. وهذا كان بمثابة البلورة النهائية ل"اجماع بكين"، وأيضاً للتطور الرأسمالي الإنساني على الطريقة الصينية. وهكذا بدلاً من شعار دينغ كيسياو بينغ الرأسمالي الشهير "ليس مهماً لون القطة، المهم انها تصيد الفئران"، بات الشعار في بكين الآن: "الأهم أن تكون القطة الصائدة للفئران، خضراء اللون وشفافة". السويدي العنيد وجنباً إلى جنب مع الصينوفنزويلا، كانت السويد، وهي أعند ديموقراطية اشتراكية أو بالأحرى "رأسمالية - اشتراكية" في أوروبا والعالم، تواصل حياتها التضامنية كالمعتاد، غير عابئة بكل ضجيج النصر النهائي في واشنطن لايديولوجيا الحياة الفردية المتطرفة. وهي تملك ما يكفي من مصادر القوة للصمود في مواقعها في وجه رياح "الرأسمالية المتوحشة": 1- فهي حققت وفق احصاءات الأممالمتحدة أعلى نسبة دخل قومي ومستوى أعمار. 2- ونسبة تعليم، وأقل معدل وفيات للأطفال، في العالم. 3- واحتلت المرتبة الأولى في مجال تعزيز الابداع الضروري للنجاح الاقتصادي، في مجالات المواهب والتكنولوجيا والتسامح. وكل التوقعات تشير الى انها ستكون قريبا المغناطيس الاهم للمواهب في العالم. 4- ووفرّت لمواطنيها ضمانات اجتماعية من المهد الى اللحد، على رغم أن الدولة تحصل على نصف دخل العاملين كضرائب. 5- وهي تعتبر أكثر دولة في العالم استقطاباً للشركات متعددة الجنسية. وعلى رغم ان نظامها اشتراكي ديموقراطي، إلا أنه لا وجود لشركات تملكها الدولة. التنافس موجود في كل مكان، لكن المجتمع يقوم على الرضى والتضامن، إضافة الى دفاعه عن حريات الفرد. 6- الصدق والأمانة والأخلاق هي أساسات العمل في المجتمع والدولة. الخيانة والطعن في الظهر ليسا من السمات الاجتماعية المعتادة في السويد. بالطبع، لا يعني ذلك ان كل ما يلمع ذهباً في هذه التجارب الثلاث الفنزويلية والصينيةوالسويدية. ففي فنزويلا، لا تزال تجربة "الرأسمالية الانسانية" معتمدة على رئيس فرد كان عسكرياً في الأصل. وهذا الفرد يعتمد، بدوره، في انتصاره للفقراء على "بونانزا" النفط التي تفجّرت مع الانفجار الأخير في أسعار البترول. فنزويلا خامس دولة مصدرة في أوبك. وفي الصين، المخاوف كبيرة والقلق أكبر على مستقبل تجربة "اشتراكية السوق". صحيح أن الاصلاحات الرأسمالية التي طبقت في سبعينات القرن العشرين، أدت الى نمو اقتصادي سريع حوّل الصين دولة إقليمية كبرى وقوة اقتصادية عالمية. لكن الصحيح أيضا أن اقتصاد السوق والخصخصة وزيادة الهيمنة الاجنبية على الاقتصاد الصيني، أفرزت تناقضات وتوترات نسفت الاستقرار الاقتصادي وفرضت تكاليف باهظة على الشعب العامل. والحصيلة: ولادة طبقة فاحشة الثراء وطبقة وسطى مرتاحة، فيما غالبية المجتمع تعاني من الفقر واللاأمن والبطالة وانخفاض خدمات التعليم والصحة، والتوسع الهائل في الفجوة بين الاغنياء والفقراء. ومن سوء حظ قادة الصين انهم انضموا الى عبدة ذلك الاله الذي يسمى "النمو الاقتصادي"، وتوقفوا عن طرح الأسئلة الآتية على أنفسهم: أي نوع من النمو؟ ولأي هدف؟ ولمصلحة مَن؟ هل يجب توجيه النمو لخدمة رغبات المثقفين والمديرين وأصحاب الأعمال والمجموعات السياسية البيروقراطية، أم لتحسين نوعية ومستوى معيشة الناس العاديين؟ وثمة نتيجة ثانية لا تقل خطورة لعبادة إلهة النمو الاقتصادي، وهي الكارثة البيئية. وكما قال وزير صيني: "إذا ما واصلنا هذا النوع من الحضارة الصناعية التقليدية، فلن تكون لدينا فرصة لمتابعة النمو المستدام، لأن سكان الصين ومواردها الطبيعية وبيئتها وصلت أصلاً إلى الحدود القصوى لقدرتها على العطاء". وفي السويد، في مقابل هذه الايجابيات الكثيرة للاشتراكية الديموقراطية، هناك العديد من السلبيات: نسبة الانتحار والطلاق المرتفعة، حالات العزلة والسوداوية التي تصيب مواطنيها والتي سجلّها بعبقرية المخرج السينمائي إنغمار برغمان، والتنافس الاقتصادي الحاد في عصر العولمة الذي أنزل السويد عن عرشها كأغنى دولة في أوروبا. تمرد أميركي؟ لكن، وعلى رغم ثغرات هذه التجارب الثلاث ونواقصها، إلا أنها تشكّل الآن نقطة جذب وتعتبر خيارات جذابة للشعوب الاخرى. لماذا؟ لسبب واحد مقنع: النموذج الأميركي لم يعد مقنعاً لأحد: لا في آسيا ولا في أوروبا. لا في أميركا اللاتينية ولا في افريقيا السمراء. ولا حتى في داخل الولاياتالمتحدة نفسها. وعلى سبيل المثال، بنجامين باربر، وهو واحد من ألمع الكتّاب الاميركيين الحديثين وأكثرهم تشبثاً ب"الديموقراطية الحقيقية" كما يصفها، يحذّر من ان هذه الاخيرة بات أمامها، برأيه، في القرن الحادي والعشرين معركة من العيار الثقيل: مواجهة الرأسمالية في حلتها المتعولمة. وفي كتابه الشهير "الجهاد في مواجهة ماكوورلد"، الذي أحدث ضجة في اميركا وعمقّ "الشرخ الليبرالي" بين الديموقراطيين والجمهوريين، يرسم بابر خطوط هذه المعركة على النحو الآتي: الأصولية الرأسمالية التي يسميها هو "ماكوورلد" تيمناً بامبراطورية المأكولات السريعة التي انطلقت بعد نهاية الحرب الباردة، لا تختلف بشيء عن الاصوليات الدينية من حيث تطرفها ورفضها للآخر. هذه الأصولية بدأت تنقلب الآن على الديموقراطية بعد قرون من الهدنة معها، لأن الرأسمالية المتعولمة لم تعد في حاجة الى الدولة - الأمة التي لعبت دور الأم الحاضن للديموقراطية. وبالتالي باتت هذه الاخيرة قيداً على الاولى، لا جسراً أو معبراً لها. الاصولية الرأسمالية، وبسبب سيطرتها الكاسحة على تمويل الاعلام والعمل السياسي، تهدد الآن بإطاحة أثمن انجازات البشرية في التاريخ: الديموقراطية نفسها. أفكار جميلة؟ أجل. ومثيرة أيضاً. وكي يبقي بنجامين جذوة هذه الاثارة متقدةّ، سارع الى اتباع "الجهاد في مواجهة ماكوورلد" بكتاب آخر هو "مخاوف امبراطورية"، حوّل فيه مخاوفه العامة على الديموقراطية الى مخاوف خاصة على الديموقراطية الأميركية. كما مع الكتاب الأول، اندرج الكتاب الثاني في نادي المؤلفات الأكثر مبيعاً في الولاياتالمتحدة، وأودع خانة الدراسات الجادة التي أخذت على الولاياتالمتحدة تبنّي المنطق الذي يقول: إما أن تكون أميركا امبراطورية العصر أو لا تكون، بدفع من الصقور في الادارة الأميركية، وجلهم من المحافظين الجدد الذين يزعمون أنّ ثمة فرصة نادرة اليوم قد لا تتكرر لتتحول الولاياتالمتحدة الى روما القرن الحادي العشرين. ويرى باربر أن الخطورة الايديولوجية لهذه النظرية، هي أنّ أصحابها يؤمنون ايماناً حقيقياً بأنّ ارساء أسس هذه الامبراطورية المزعومة قدر محتوم لا تستطيع أميركا تجنبه. وأسفر إقدام الولاياتالمتحدة على منح نفسها حق التصرف من جانب واحد، والادعاء أنّ بمقدورها القيام بالحروب الوقائية وتغيير الأنظمة السياسية المتشردة على الساحة الدولية، عن افساد الإطار الديموقراطي الموضوعي للتعاون الدولي وتعزيز القوانين المنبثقة عنه، علماً أنّ هذه الأخيرة أمر ضروري لا مناص منه لمكافحة الإرهاب والحد من الفوضى العالمية. ويقول بابر إنّ السياسة الخارجية التي تتبناها واشنطن، مدعومة باستخدام القوة العسكرية ضد ما يسمى بالدول المارقة، أمر يعبّر عن ارتباك عميق في استيعاب نتائج التفاعل بين الدول، كما أنّه يسيء الى مفهوم الشخصية الديموقراطية لسائر البلدان التي لا تنظر اليها الولاياتالمتحدة بعين الرضا. ويخلص الى نتيجة مفادها أنّ الولاياتالمتحدة عاجزة تماماً عن ادارة نظام دولي باستخدام القوة العسكرية والتهويل بخطر الارهاب، مؤكداً أنّ هذه الامبراطورية لن يكتب لها البقاء. لماذا؟ لأنه يعتبر انّ منطق العولمة يتفوّق على منطق الامبراطورية. ذلك أنّ انتشار تقنيات التكنولوجيا كالنار في الهشيم، يزعزع العناوين الكبرى للاستراتيجيا الامبريالية. ففي معظم السمات الاقتصادية والسياسية للحياة المعاصرة، تعتمد الولاياتالمتحدة، على نحو مكثف، على حجم التعاون مع البلدان الأخرى. وبذلك أصبح العالم أكثر تشابكاً وتفاعلاً، وأكثر تعقيداً ليحكم من قبل مركز امبريالي واحد. وفي المقابل، يقترح الكاتب، بدلاً من النظام الامبريالي الذي تزعم الولاياتالمتحدة أنّها تقوده بنجاح، نظاماً كوزموبوليتانياً ديموقراطياً يقوم على مبادئ القانون الكوني المتجذر في الاجتماع الانساني. ويستند هذا التوجه الى التعاون الثقافي والاقتصادي والسياسي المشترك، من دون استبعاد أيّ تحرك عسكري، شريطة أن يلقى قبولاً وموافقة من سلطة قانونية تضم سائر الأطراف، سواء تم ذلك في الكونغرس الأميركي أو من خلال الاتفاقات متعددة الأطراف، أو بواسطة الأممالمتحدة. ويرى انّ التهديدات الناتجة عن الجماعات الارهابية، تصبح مواجهتها أكثر يسراً وفاعلية من خلال ما يمكن تسميته "الديموقراطية الاستباقية"، وهي تلك التي تأتي نتيجة التعاون بين مختلف البلدان لتعزيز وتقوية التوجهات الليبرالية. "ديموقراطية استباقية" بدلاً من "الحروب الاستباقية" التي يفرضها "نهاية التاريخ"؟. هل هذا الشعار قابل للتطبيق، أم أنه مجرد طوبى خيالية؟ الرأسماليون الأوروبيون لا يعتقدون بأنه خيال. وهم ينهمكون الآن في إعادة بناء اوروبا، في إطار عولمة يقولون انهم يريدونها مستندة الى السلام، وما بعد الدولة - الأمة، وحرية التجارة، وحكم القانون الدولي. لكن الرأسماليين الأميركيين ما زالوا يعتقدون بأن القوة والحرب وبالتالي الامبراطورية لا الديموقراطية هما الوسيلة الأفضل لمراكمة رأس المال، وان مركزة هذا الأخير يجب ان تكون الهدف الأول والأخير لأي نشاط اقتصادي وسياسي. ويوضح هنا الباحث الاقتصادي الأميركي راستون سول جون، في دراسة شيقة بعنوان "الديموقراطية والعولمة"، أن أخطر ما شهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة هو نجاح الاعلام الاميركي الذي تسيطر عليه الشركات بتصوير الاقتصاد على أنه قائد المجتمعات، كل المجتمعات. وهذا كان، برأيه، تمهيداً لانقلابات كبرى في بنية النظام الرأسمالي. فبعدها سادت الاحتكارات، وانعدم التنافس، وسيطرة الاوليغارشيات المالية، بعدما استغلت الشركات الكبرى شعار الاقتصاد ككقائد للقيام بأضخم مركزة لرأس المال في التاريخ البشري، عبر عمليات الدمج والضم وإلابتلاع. وفي الوقت ذاته، كان أرباب النظام الرأسمالي يتوقفون عن كونهم "رأسماليين حقيقيين". فهم يتشكلون الآن من التكنوقراطيين، والبيروقراطيين، والمديرين، والموظفين. وهؤلاء جميعاً لا يملكون أية أسهم، ولا يقدمون على أية مخاطر. الأسهم الوحيدة التي يملكون هي تلك التي يحصلون عليها مجاناً من الشركات، أو عبر استعارة المال من هذه الشركات من دون فوائد. كل هذه الفئات لا تعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومكلفة. وهي أقرب ما تكون الى دراكولا مصاص الدماء. إذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالكون حقيقيون لديهم أسهم، ويقومون بمخاطر مالية. وبعدها تبدأ هذه الفئات بمص دماء هذه الشركات. وفي خضم هذه العملية تتوقف الاقتصادات عن التطور، وتنهار الاقتصادات المختلطة لأن الشركات العملاقة تشتري شركاتها في وقت مبكر. وهذه العملية، إضافة الى فساد طبقة المديرين - البيروقراطيين، هما الآن سبب كل من الأزمة الرأسمالية والأزمة الديموقراطية راهناً. الأرقام تدعم تماماً مخاوف بنجامين باربر وشكاوى راستون سول جون: فهناك الآن خمس شركات عملاقة تسيطر على 50 في المئة من الأسواق العالمية، في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الالكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والالكترونيات. وهناك خمس شركات أخرى تسيطر على 70 في المئة من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة. وثمة خمس شركات غيرها تهيمن على 40 في المئة من النفط والعقول الالكترونية الخاصة والاعلام، و51 في المئة من أكبر الاقتصادات في العالم اليوم هي شركات لا دول. مبيعات 200 شركة تمثّل 3.28 في المئة من الانتاج الخام العالمي. كل هذه الأرقام تعني، ببساطة، أن السوق العالمية الموّحدة، ومعها القرية العالمية، وحتى مفهوم الحضارة العالمية الواحدة، ستكون عما قريب "ملكية خاصة" لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الادارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه. هذه المعطيات، ستؤدي حتماً إلى ردود فعل حادة من جانب العديد من القوى الاجتماعية والثقافية في العالم، خصوصاً منها تلك التي تحذّر من كوارث طبيعية ضخمة بسبب سخونة الطقس الذي بات يتسبب به نمو رأسمالي اقتصادي بلا قيود. حتى الآن، لا تزال هذه الردود تتم على تخوم الرأسمالية، كما في تجارب فنزويلاوالصينوالسويد. لكن من يدري ماذا يمكن ان يحدث غداً إذا تحققت نبوءات علماء البيئة حول تغييرات المناخ بسبب التلوث الصناعي، أو تعقدّت أزمة الطاقة كما هو متوقع وعجزت عن مواصلة "تزييت" آلة النمو الاقتصادي؟ ماذا سيحدث إذا انتصبت غداً المتاريس بين معسكرين، يضم أولهما عتاة الرأسمالية، ويضم الثاني مزيجاً سيكون الأول من نوعه في التاريخ بين اليساريين الرافضين للرأسمالية واليمينيين الرأسماليين الديموقراطيين، إضافة الى البيئويين والانسانويين والعالمثالثيين؟ إذا ما حدث ذلك، ستكون "تمردات" فنزويلاوالصينوالسويد الحالية مجرد ألعاب أطفال، إذا قورنت بالتمردات الأخرى المحتملة التي ستكون أعنف وأكثر دموية ضد رأسمالية "نهاية التاريخ"