السعودية ترفع حيازتها من سندات الخزانة 1.1 مليار دولار في شهر    نائب أمير جازان يطلع على جهود تعليم جازان مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    الذهب لأعلى مستوى مع تراجع الدولار وترقب إشارات «الفائدة».. والأسهم ترتفع    النفط يستقر رغم انقطاع الإمدادات والمخاطر الجيوسياسية    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    فيتو روسي ضد وقف إطلاق النار في السودان    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ «اتفاق بكين»    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    المملكة تتسلّم علم الاتحاد الدولي لرياضة الإطفاء    تسريع إنشاء الميناء الجاف يحل أزمة تكدس شاحنات ميناء الملك عبدالعزيز    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    رهانات زيارة ماكرون للمملكة العربية السعودية    سهرة مع سحابة بعيدة    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    رغم تناقضاتهم.. تجمعهم كراهية السعودية !    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    الشورى يطالب «التنمية الاجتماعية» بتغطية المناطق كافة    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    خبر انطلاق منتدى مكة لريادة الأعمال وحفل التدشين    تحت رعاية خادم الحرمين.. مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    وطن الطموح    كلب ينقذ سائحاً من الموت    الترقيات الاستثنائية ودورها في حياة الموظف    نيابةً عن سمو ولي العهد.. وزير الخارجية يرأس وفد المملكة في قمة» العشرين»    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    أرامكو توسع مشاريع التكرير    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    ثقافات العالم    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    عودة للمدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرن العشرون في علاماته ومغامراته الانعطافية . عصر العولمة : كون مفتوح ... بلا ضوابط 8
نشر في الحياة يوم 17 - 01 - 2000

"العولمة" من الكلمات الأكثر تداولاً عند نهايات هذا القرن الذي يرحل، ومع هذا ربما تكون الكلمة الأقل وضوحاً، والأكثر اثارة للرعب لدى الكثيرين. في نهاية الأمر، وكما يقول النص الآتي المؤلف من أسئلة وأجوبة حول العولمة، هذه الكلمة واحدة من سمات القرن، على رغم أنها لم تولد فيه، وتثير المخاوف فقط لأن مستخدميها يفتقرون الى الوضوح.
1 - العولمة، هل هي وليدة القرن العشرين؟
- يمكن القول ان عناصر من العولمة تسبق قرننا العشرين. فلقد كانت هناك، على الدوام، تبادلات تجارية وانتقال سلع. ولعبت الثورة الصناعية دوراً مؤكداً في تعزيز الاندماج "العالمي". ولقد أدى تطور وسائل النقل والاتصال، في الماضي، الى تقريب الاقاليم من بعضها. ثم ان الامبراطوريات، على امتداد التاريخ، جعلت شعوباً تتعايش وفتحت أسواقاً. ولقد كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر مميزاً على هذا الصعيد. وشهد العالم عشية الحرب الاولى الكبرى في هذا القرن توسعاً مطرداً في التبادلات التجارية، وبحث الرساميل عن مواد أولية، والبضائع عن أسواق تصريف. وإذا كان الوضع تغير، بين الحربين، نحو قدر من الحمائية والانغلاق فإن كثيرين يجدون في ذلك سبباً لتجدد النزاع على صعيد كوني. وبعد الحرب الكونية الثانية، وهي شكل بشع ودموي من "العولمة"، برزت مؤسسات سياسية واقتصادية تتعاطى مع الكرة الارضية كلها وتحاول تنظيم شؤونها. ولقد دخلت هذه العملية، منذ الخمسينيات، في طور متسارع شهد قفزة في الثمانينات قبل ان يرفع من سرعته في التسعينيات. ليست العولمة وليدة القرن العشرين تماماً ولكنها تعيش فترة ازدهار في خاتمته لم يسبق ان عاشتها. انها مرحلة نوعية جديدة.
2 - ما هي العولمة في ضوء هذا البعد التاريخي؟
- انها، ببساطة، مزيد من الاعتماد المتبادل بين شعوب الارض ودولها ومزيد من الاندماج. فما نعيشه، اليوم، يتميز بنمو التجارة الدولية اضعاف نمو النواتج المحلية، ويقوم ذلك، سواء عبر التكتلات الاقليمية او العالمية، على اضعاف الحواجز والسواتر والابعاد الوطنية ونشوء قوى اقتصادية واعلامية وثقافية وسياسية ما فوق وطنية تلعب، يوماً بعد يوم، دوراً اكثر اهمية في حياة الانسان على حساب ذلك المحصور ضمن اطر السيادات الوطنية والمنعكس في الدول والحكومات.
لقد باتت الشركات الكبرى تخطط انطلاقاً من اعتبار الارض كلها سوقاً لها، وهي توزع فروع انتاجها مستفيدة من الثورة التكنولوجية، وتقترب قدر المستطاع من اسواق الاستهلاك. وهذه الشركات التي يطلق عليه اسم المتعددة الجنسية "مسؤولة" عن ثلث التجارة العالمية وحدها. وتواكبها ثورة نادرة المثيل في مجال الاتصالات. ولقد اطلق العالم الكندي ماكلوهان على هذه الظاهرة الاخيرة اسم "القرية الكونية" وذلك قبل ظهور "سي.ان.ان." و"ام.تي.في." وهذا الحشد الهائل من الاقمار الصناعية التي اختصرت الزمان والمكان.
تراجعت الحواجز الجمركية كثيراً امام انتقال السلع سواء في المتحدات الاقليمية الاتحاد الاوروبي، نافتا، اسيان، ميركوسور... ام على الصعيد العالمي الغات ثم منظمة التجارة العالمية...
وتكاثرت الاستثمارات الخارجية مع انها، في معظمها، لا زالت متركزة في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان.
ولعل الرقم الذي يدل، اكثر من غيره، على العالم الجديد الذي نعيش فيه هو المتعلق بالحركة المالية. ففي كل يوم تنتقل، عبر بورصات العالم ومصارفه، كمية من الاموال تتراوح بين 1500 و2000 بليون دولار وذلك على مدار الاربع وعشرين ساعة وبسرعة تفوق سرعة الضوء. وتشكل هذه الكتلة النقدية الهائلة اقتصاداً موازياً تعجز عن ضبطه الحكومات ولا تتدخل فيه ولا تستطيع، اصلاً، تقديره. ولقد قدمت الازمة الآسيوية قبل حوالي السنتين فكرة مصغّرة عن الاضرار الهائلة التي يمكن لجزء بسيط من هذه الكتلة النقدية ان يحدثها اذا اصابه حس جعله يقرر الانتقال من مكان الى آخر. ان له، وهو غير المرئي، فعل الاعاصير.
العولمة هي تحول العالم الى دائرة انتاج وتسويق واحدة. ولذا فهي شهدت دفعاً قوياً مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، ومع تطعيم الاقتصاد الصيني بعناصر رأسمالية، ومع انفتاح الهند، ومع سقوط تجارب التنمية المركزية في بلدان العالم الثالث. ولقد ادت هذه التطورات كلها الى تراجع القطاع العام وزيادة التخصيص وتنامي الاستثمار الاجنبي وازالة المعوقات القانونية والتشريعية امام حركة الرساميل. والجديد، في ما حصل، ان العولمة وصلت الى "زوايا" بات صعباً معها الحديث عن "ستار حديدي" او "قلاع محصنة".
3 - هل العولمة اقتصادية؟ ايديولوجية؟ ثقافية؟ اعلامية؟
- العولمة هي ذلك كله معاً... وأكثر. انها اقتصادية طبعاً حسب ما تقدم. ولكنها ايديولوجية ايضاً. فلا يجب نسيان ان دخولها مرحلة الزخم القوي ترافق مع انتصار منظومة افكار معينة هي المنظومة الليبرالية في صيغتها الاكثر تشدداً وأصولية. انها، بمعنى ما، ليبرالية القرن التاسع عشر قبل ان تتعرض الى تعديلات فرضتها النقابات والاحزاب والثورات الوطنية. وهناك من يزعم انها ليبرالية مرحلة بسيطة في القرن الماضي اعيد انتاجها في فترة قصيرة من القرن العشرين هي فكرة حكم رونالد ريغان في أميركا ومارغريت تاتشر في بريطانيا ونجاحهما في كسب العالم الانكلوساكسوني ثم غيره لاحقاً. ويخطئ من يرى في ذلك مجرد انتصار على الماركسية التي شهدت تطبيقاً مشوهاً في بلدان الاشتراكية القائمة. الحقيقة هي ان الانتصار تم على الكينزية التي حكمت الفكر الاقتصادي الغربي، في الدول الرأسمالية، ثلاثة عقود بعد الحرب الثانية وحتى اواسط السبعينات. لقد كان هذه هي، بالفعل، الحرب الايديولوجية الباردة في الدول المتقدمة وهي انتهت بإلحاق هزيمة بالكينزية لصالح ليبرالية تطبع العولمة، اليوم، بطابعها.
ان القوة الرئيسية الدافعة نحو المزيد من العولمة هي الولايات المتحدة الاميركية سواء عبر قوتها السياسية والعسكرية او عبر شركاتها وأموال صناديق التقاعد فيها او عبر "صناعتها" الثقافية من السينما الى الموسيقى الى الالبسة والمأكولات و"الامكنة" التي تخاطب حساً شبابياً عارضة عليه ما يسميه البعض "ثقافة فرعية" هابطة المستوى. ان هذا السعي الى توحيد العالم ثقافياً هو، في الواقع، سعي الى تغليب "الامركة" على ما عداها من ثقافات تضرب جذورها في التاريخ.
وليس سراً ان هذه المحاولة تلقى مقاومة. من مظاهر هذه المقاومة "الاستثناء الثقافي" الذي يصر عليه الفرنسيون خاصة بعد نجاحهم في جذب اغلبية الاوروبيين الى صفهم. والمقصود من ذلك رفض اعتبار "الثقافة" سلعة مثل غيرها ينطبق عليها ما ينطبق على السيارات والبرادات والحواسيب. الثقافة نمط حياة، ومفاهيم، وقيم، والمطلوب، حسب وجهة النظر هذه، حمايتها من اواليات السوق بصورة عامة ومن تحرير التجارة وفتح الاسواق تالياً. والترجمة الفعلية لهذا المنظور الاصرار على الدعم الحكومي لأشكال الانتاج الثقافي وفرض "كوتا" معينة لما يمكن استيراده. ولكن، وبالرغم من هذا التشدد، فإن حصة السينما الاميركية في الاسواق الاوروبية اكبر بما لا يقاس من اية حصة اخرى.
اذا كان التيار الغالب في أوروبا خاض معركة منظمة ضد العولمة الثقافية، اي "الامركة"، فإن شعوباً ومناطق اخرى قاومت هذا التوحيد القسري. ولقد اسفرت هذه المقاومة عن تعديلات ادخلتها المؤسسات الاميركية على برامجها الاخبارية والموسيقية وعلى كل ما تصدره. غير ان هذه التعديلات التي تحاول مخاطبة "الحس المحلي" لا تلغي ان الولايات المتحدة تتمتع بموقع الارجحية الكاسحة على هذا الصعيد.
4 - ما علاقة العولمة بالشركات المتعددة الجنسيات مثلاً او بالتلفزيون وأنترنت؟
- ان الشركات المشار اليها هي ركن اساسي من اركان العولمة. ويقال عن شركة انها متعددة الجنسية اذا كان اكثر من نصف عمالها وأعمالها خارج حدود وطنها الاصلي. ان الارقام التي تحققها اكبر مئتي شركة من هذا النوع تفوق النواتج المحلية لكل الدول الخارجة عن نطاق "المثلث" الاميركي - الاوروبي - الياباني.
ولكن لا يجوز لهذه الحقيقة ان تحجب واقعاً آخر. ان اكثر من 90 في المئة من هذه الشركات تنتمي الى "المثلث" وهي في اكثريتها اميركية. ويعني ذلك انها متأثرة، بشكل او بآخر، ببلد المنشأ وثقافته وأساليبه الادارية وهي تعيد قسماً وافراً من ارباحه اليه.
ويلعب التلفزيون، من جهته، دوراً مميزاً في "توحيد" العالم وفي جعله يعيش ازمنته المختلفة وأمكنته المختلفة وكأنهم زمان واحد ومكان واحد. وليس ادل على ذلك من المناسبات الكبرى تشييع ديانا مثلاً، او مونديال كرة القدم... ففي لحظة محددة يعيش مليارات البشر، عبر البث المباشر، مشاعر موحدة ويتابعون حدثاً واحداً. ولكن الملاحظ، في السنوات الاخيرة، اننا امام طريق ذي اتجاهين. صحيح ان المؤسسات العملاقة "تغزو" كل من يقف في وجهها ولكن استخدام الفضاء شرع ينتج تأثيراً مضاء! ان المصريين في أميركا، مثلاً، يشاهدون الفضائية المصرية بأكثر مما يشاهد المصريون في مصر "سي.ان.ان." او "بي.بي.سي." ويمكن تعميم هذا المثال من اجل القول بأن التعددية لم تنته وبأن كسر الاحتكار وارد.
أما "أنترنت" فقد بات اسماً موصولاً بالعولمة بطريقة لا فكاك منها. انه الرمز الابرز لما يمكن لثورة الاتصالات ان تحدثه خاصة عند استكمال توحيده مع التلفون والتلفزيون في صيغه التكنولوجية المتقدمة. ولكن "أنترنت" هو، بالفعل، الانجاز الاكثر ديموقراطية للعولمة. فهو يعمم المعرفة ويوزعها ويسمح لأي كان بأن يتلقى ويبث. ومع ان استخداماته محصورة وشديدة التمايز بين دول الشمال ودول الجنوب يوجد في نيويورك وحدها خطوط هاتف اكثر من كل أفريقيا الصحراوية! فإن الهجمة عليه ستزداد من اجل الامساك به وتقليل الطابع شبه المجاني الذي يتمتع به.
5 - هل يمكن القول ان العولمة توفر للولايات المتحدة فرصة الهيمنة على العالم؟ كيف؟
- يمكن القول اكثر ان الولايات المتحدة هي التي توفر للعولمة فرصة الهيمنة على العالم. فالادارات الاميركية المتعاقبة منذ عقدين تقريباً وضعت تحرير الاقتصاد وفتح الاسواق وازالة الحواجز الجمركية بنداً اساسياً على جدول علاقاتها الثنائية مع دول العالم. واذا كان تصعيد الحرب الباردة من جانب ادارة ريغان لعب دوراً في اسقاط المعسكر الاشتراكي فهذه هدية للعولمة و... لأميركا. وواشنطن كانت الجهة التي جعلت الليبرالية القصوى خياراً لروسيا وغيرها من الدول "الاشتراكية" سابقاً. كما انها حاضرة بقوة في عملية دفع الصين نحو تغيير توجهاتها.
ان الولايات المتحدة هي، اليوم، القوة الاولى عالمياً سياسياً وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً. ولكن، في هذه المجالات كلها، فإن المنافسة الرئيسية التي تتعرض اليها، من الاتحاد الاوروبي مثلاً، هي اقتصادية. فالاتحاد يوازيها في الوزن والموقع التجاري العالمي ولكنه يقصر عنها في الميادين الاخرى كلها.
ولذلك يمكن القول اننا امام وضع معقد بعض الشيء. وهو معقد الى حد يسمح للبعض بالقول ان العولمة قد تضر، في نهاية المطاف، بالارجحية الاميركية الكاسحة حالياً. هذا الكلام غير دقيق طبعاً. فعناصر القوة الاميركية كثيرة، ويجب ان نضيف اليها التفوق التكنولوجي على المنافسين جميعاً وهو تفوق يضمن المركز الاميركي عقوداً الى الامام.
يمكن القول، بدقة، ان أميركا تفتح الباب امام العولمة بقدر ما يفيدها ذلك وهي توظف قوتها غير الاقتصادية في المجال الاقتصادي. ثمة شبه اجماع في أوروبا على ان الولايات المتحدة بلد اكثر حمائية من بلدان أوروبية وأنها اكثر الدول استخداماً لسلاح المقاطعة الاقتصادية والعقوبات التجارية، وانها وضعت قوانين لنفسها تحررها من الخضوع لأحكام الهيئات الدولية المختصة، الخ... ومن الامثلة المضروبة في هذا المجال حرب الموز اولاً ثم حرب الاغذية المعولمة جينياً. وفي الحالين وجدت أوروبا نفسها امام قوة عظمى تضع سلطانها في خدمة شركات عملاقة معدودة ولا تسأل عن الآثار الكارثية لفرض وجهة نظرها سواء على علاقات دول اوروبية بمستعمراتها السابقة او، حتى، على علاقة حكومات بأريافها وصيغ التنظيم العام الذي اوجدته لتوزيع الانتاج فوق ارضها الوطنية.
6 - ما هي الصلة بين العولمة وبين النظام العالمي الجديد؟
- مصطلح "النظام العالمي الجديد" ظهر بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في سياق حرب الخليج. وكان القصد منه القول بأن الاستقطاب الدوري انتهى مع ما يعنيه من اضطرار الى تحالفات غير مستحبة. ونشأ بدلاً منه وضع يحكمه القانون والشرعية الدولية. ويمكن اعتبار ذلك، مع بعض المغالاة، الجانب السياسي - الحقوقي من العولمة. غير ان التطورات اللاحقة اثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، ان المصالح بقيت تتحكم بسياسات الدول وشركاتها وتدفعها الى التنافس. ويتعارض ذلك مع دعوة الاحتكام الى قانون دولي يفترض فيه، من حيث المبدأ، ان يكون فوق الجميع.
ان العولمة، بما هي توسيع التنافس ليطاول الاسواق كلها، تحمل تعارضاً بنيوياً مع الصيغة التي جرى فيها تقديم النظام الدولي الجديد. ففي وقت لا يتورع رأس المال عن اقتحام اي سوق نلاحظ كم تتردد القوى الكبرى في زج جنودها في النزاعات. وهي، اذ تفعل ذلك، فإنها تريد حداً ادنى من الخسائر مقابل حد اقصى من الارباح في الحالة الاولى وغالباً ما تربط ذلك بهدف استراتيجي. فحرب كوسوفو مثلاً، لا يمكن فهمها من دون ربطها بمشروع توسيع حلف شمالي الاطلسي واطالة أمد الارجحية الاميركية في أوروبا. تعتمد العولمة مبدأ الربح ويعتمد النظام العالمي الجديد مبدأ الاخلاق. والواضح انه جرى تطويع الثانية من اجل وضعها في خدمة الاول.
7 - هل من صلة بين العولمة وأطروحة نهاية التاريخ؟
- بالطبع، الصلة وثيقة. لقد تقدم فرنسيس فوكوياما بنظريته قبل انهيار المعسكر الاشتراكي ثم عاد الى تطويرها لاحقاً. وهي تقول ان النظام القائم على الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية اثبت أن افق البشرية الذي لا يمكن تجاوزه بعدما نجح، في خلال هذا القرن، بهزيمة النازية والفاشية ثم الشيوعية. وبما ان العولمة تصحيح لتأثير اليبرالية الاقتصادية القصوى على البشرية، وبما انها تقود الى اعتمادات متبادلة تستبعد الحروب، وبما ان الجميع يتخلى عن افكاره وتوجهاته للالتحاق بها فإن التاريخ، بهذا المعنى ينتهي عندها ويبدأ... الفجر!
غير ان مثقفين كثيرين ناقشوا هذه الاطروحة. بينهم البريطاني جون غراي في كتابه "الفجر الكاذب". وهو يعتبر ان التناقض صارخ بين الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية وبأنه من دون تدخل انساني فإن ترك اواليات السوق تفعل فعلها يقود الى تآكل الديموقرطية. لذا فهو يدعو الى موقف نقدي مما يحصل، مدركاً صعوبة موقفه ومحذراً من ان التناقضات الجديدة، التي لا يمكن توقعها، تجعل التاريخ بلا نهاية طالما ان العولمة ليست خاتمة سعيدة.
8 - العولمة هل تستقيم اذا صحت فرضية "صراع الحضارات"؟
- يجب القول، بادئ ذي بدء، ان ما طرحه صموئيل صنتنغتون، في "صراع الحضارات" هو، بمعنى ما، رد على "نهاية التاريخ". فهو يعتبر ان مرحلة انتهت تميزت بالمواجهات الاستراتيجيات بين منظومتين ايديولوجيتين متكاملتين. ولكن ذلك فتح الباب امام صراعات ستخوضها الحضارات الانسانية ذات الجذور الدينية المختلفة. ويؤسس لفرضيته هذه على ما يراه من انبعاث الاصوليات سواء الاسلامية او المسيحية او اليهودية او الهندوسية واندماجها، احياناً، بالقوميات.
يجد كلام هنتنغتون صدى له في كتاب بنيامين باربر المعنون "الجهاد في مواجهة ماك وورلد". فهذا الاخير يعتبر ان المحاولة الاميركية لفرض نموذج ثقافي نمطي موحد تواجه بانبعاث الهويات الانطوائية على اشكالها. ومع انه يميل الى الحسم بأن "ماك وورلد" الاسم الرمزي للعولمة سينتصر على "الجهاد" الاسم الرمزي لكل محاولات الرفض والممانعة فإنه يتوقع ان يسلك ذلك طريقاً متعرجاً وطويلاً. وقد رد برنارد لويس وغيره كثيرون على "صراع الحضارات" ملاحظين ان خطوط الانقسام في العالم تخترق الوحدات المفترضة لدى الباحث الاميركي ذي الميول اليمينية. وتميز الرئيس الايراني محمد خاتمي بالاصرار على ان "حوار الحضارات" يجب ان يكون مستقبل البشرية. غير ان اصرار يحمل الكثير من التمنيات. فالحوار صعب وما ينطبق على عدم التشكل السياسي - الاستراتيجي للحضارات في فرضية صراعها ينطبق عليها في فرضية حوارها.
9 - ما هي الصلة بين العولمة والتكنولوجيا؟
- ما كان يمكن للعولمة ان تتقدم لولا الفتوحات التكنولوجية الجديدة. انها على صلة وثيقة بكل ما يجري على صعيد وسائل الاتصال. يجب ان نضيف الى ذلك ان هناك من أحلّ التكنولوجيا محل فكرة التقدم نفسها كما طوّرها مفكرو الانوار والتقدميون من بعدهم. لم تعد وسيلة بل مضمون ما نشهده اليوم. ولكن المفارقة، هنا، ان الثورة العلمية التي تتيح اكبر قدر من امكانية التدخل الانساني في الكون والطبيعة والجسم يرافقها تصور متشائم حول امكانية التدخل في تنظيم الحياة الاجتماعية. يقال "لا بديل عن العولمة" والمقصود ان لا بديل عنها في صيغتها الراهنة وذلك في وقت تظهر نتائجها السيئة، وفي وقت تخضع الجينات كلها لإعادة هندسة تدل على المدى الذي يمكن للبشر الوصول اليه على صعيد "التدخل".
10 - ما مصير منظمة الأمم المتحدة في ضوء العولمة؟
- ان تقدم العولمة يطرح سؤالاً مصيرياً على الامم المتحدة. فهذه الاخيرة هي تجمّع لدول أمم. والحال ان العولمة تقضم السيادات الوطنية من فوق وتثير نعرات ما دون وطنية تقضمها من تحت. ولذا فإن قرارات الحكومات بانت منقوصة خاصة اذا أضفنا الى ذلك ان بعضها، كما في أوروبا، مضطر لالتزام توجهات جماعية من جانب اتحادات غير ممثلة في الأمم المتحدة.
ان منظمات تابعة، من حيث المبدأ، لهذه الهيئة، مثل صندوق النقد، والبنك الدولي ومنظمة التجارة، هي المسؤولة عن قضايا كانت محتسبة ضمن السيادة: اعادة هيكلة الاقتصاد، الديون، الاستقرار النقدي، الاوضاع الاجتماعية، تحرير التجارة، الجمارك، الخ... لذا يبدو العالم امام وضع غريب بعض الشيء يشهد نمو صلاحيات مؤسسات تابعة للامم المتحدة على حساب الامم المتحدة نفسها بصفتها منتدى تتمثل فيه الحكومات.
اذا اضفنا الى ذلك الاستخدام الذرائعي الذي تقدم عليه الدولة الاقوى، أميركا، كما في حال كوسوفو، بتنا امام واقع يقول ان الامم المتحدة بدأت التسعينات بآمال كبيرة وهي تختتمها، ومعها القرن والألفية، في حالة أزمة.
11 - ما هي العلاقة الناشئة بين العولمة وفكرة الدولة؟
- الدولة هي الاطار الوحيد الموجود، حتى الآن، لممارسة السيادة الشعبية. والعولمة هي كناية عن تضاؤل هذه السيادة لصالح الرأسمال المتجول، والشركات المتعددة الجنسيات، والانظمة الاقتصادية - الاجتماعية... يوجد، اذن، من حيث المبدأ تناقض حاد بين انتصار العولمة وبين الاحتفاظ بالدول في صيغها المعروفة.
غير ان هناك من يساجل ضد هذا الافتراض قائلاً ان الدولة ما زالت تمارس صلاحيات كثيرة على صعيد التشريع والامن وتحديد السياسة الخارجية وغير ذلك. ثم ان الدولة، اي دولة، هي مقر المؤسسات الاقتصادية الكبرى الخاضعة بالتالي، نسبياً، لأحكامها.
وحصيلة هذا السجال ان الاتجاه الاجمالي هو لصالح قوى خارجة عن نطاق السيطرة الرسمية. وأهمية هذه الحصيلة هي انها لا تطرح سؤالاً حول مصير الدولة فحسب بل، ايضاً، حول مصير الديموقراطية باعتبار ان البشرية لم تنتج حتى الآن صيغة اخرى لممارسة السيادة الشعبية تتجاوز الحدود الوطنية.
وهذا الخوف على الديموقراطية مبرر. فصندوق النقد، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة، والكتلة النقدية الهائلة، هي كلها عناصر تلعب دوراً حاسماً في تقرير مصائر الناس من غير ان تكون خاضعة، ولا بأي شكل من الاشكال، للمساءلة والمحاسبة.
12 - تعبر كتابات المثقفين العرب عن خشية من العولمة. لماذا؟
- ان الخشية الفعلية التي يجب ان تنتابنا هي من قلة المساهمات العربية في توضيح ما يجري في العالم. الكتابات في هذا المجال قليلة جداً والترجمات ايضاً. هذا أولاً. ثانياً ثمة ميل لدينا لرؤية الجوانب الثقافية من اي ظاهرة على حساب الجوانب الاخرى. فعندما ساد في المنطقة الحديث عن "الشرق الاوسط الجديد" ثم تناسي القضايا الاقتصادية والامنية والسياسية التي يتضمنها من اجل التركيز على "التطبيع الثقافي". ويتكرر الامر مع العولمة التي هي ظاهرة شاملة فلا يتم تناولها الا من زاوية "الغزو الثقافي". ثالثاً، ان الطلاق كامل بين ما يقوله رجال السياسة والاقتصاد وما يقوله قسم كبير من المثقفين ويقود هذا الطلاق الى ضعف تأثير "الحملات" على "القرارات".
ربما كان مبعث هذا الوضع ان العرب باتوا يدركون انهم لا يشكلون وحدة اقتصادية او سياسية او امنية وان الثقافة هي آخر ما يجمع بينهم فيخشون ضياعها. والحقيقة ان لا مبرر لخوف كبير في هذا المجال. فحجم الاختراق الثقافي ضئيل قياساً بالاختراقات الاخرى على انواعها. وربما يقود ذلك الى اننا سنأخذ من العالم اسوأ ما يمكنه تقديمه الينا على حساب ما هو افضل.
ثمة كتابات وندوات عربية شرعت تتلمس هذا الموضوع. هناك من يرفض العولمة بأنها حل وهناك من يدعو الى الانخراط فيها بلا شروط. وهناك من يطالب بتأمين الشروط، الوطنية والقومية، اي بتعلم السباحة، قبل خوض هذا الغمار وطالما ان خوضه شبه محتم.
ان العقوبة القصوى، اليوم، ليست تلقي الآثار الضارة جداً للعولمة في ظل عدم الاستعداد لها. كلا. ان العقوبة القصوى هي التهميش الذي يمكن ان يصيب العرب فيزداد وقوعهم على عتبات التاريخ. ولعل الدرس الاكبر من فشل اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل هو ان رفض العولمة اصبح، بدوره، معولماً. ولذا فإن الانطواء على النفس شديد الضرر على من يمارسه والحل الامثل هو الاستعداد الممزوج بالانتماء الداعي الى تيار عالمي يدرك ان سفينة العولمة تحتاج الى قيادة من نوع آخر والى بوصلة جديدة.
13 - هل تمحو كوزموبوليتية العولمة القضية القومية العربية؟
- لم تكن القضية القومية العربية تحتاج الى العولمة لكي تصل الى الدرك الذي وصلت اليه. تكفلنا نحن بمحوها.
ان العرب قادمون على عصر صعب. فنسبة النمو لديهم اقل مما هي عليه في مناطق العالم ونسبة الولادات اعلى. التصحر يزداد ومعه الاتكال على موارد وحيدة. الأمية تتراجع نسبياً وتتقدم كمياً. والاهم من ذلك ان العلاقات البينية تكاد تكون غير موجودة الا في ابشع صورها: توريد العمالة الرخيصة والتشنجات المرتبطة بذلك.
وسوف يضاف، الى ذلك كله، ان عملية التسوية اذا وصلت الى نهايتها ستعطي دفعة جديدة لهذه الاتجاهات نفسها.
ولكن هناك من يقول رب ضارة نافعة. فالعولمة بما تعنيه من فتح حدود وازالة حواجز وتهيل انتقال البضائع والاموال وليس الاشخاص لا بد ان تترك تأثيراتها الاقليمية فتحقق بذلك حلماً راود أجيالاً من العرب وحفظته ادراج جامعة الدول العربية منذ عقود.
ان هذه "النتيجة الفرعية" قابلة لأن تشكل نقطة انطلاق. غير ان لا شيء، في المدى المنظور، يوحي بإمكانية الاستفادة منها سواء كان ذلك للحصول على قدر من التكامل ام لتوسيع مساحة الحريات.
ان الاقتصاد العربي "معولم" بأكثر مما نحب ان نعتقد. لكنه "معولم" لغير مصلحة العرب. والامن العربي "معولم". والسياسة العربية "معولمة". وحتى ان العولمة تخترق مجتمعاتنا المدنية بدليل الانتشار المتزايد للمنظمات غير الحكومية التي هي فروع لهيئات دولية. وربما "حظي" المجتمع الفلسطيني بنسبة من هذه المنظمات تفوق اي مجتمع عربي آخر. وحتى تياراتنا الاصولية تجاوزت الاطر القومية. اي اننا عملياً، كما البطل المسرحي، نقول نثراً من غير ان ندري. علماً ان هذه الدراية هي الخطوة الاولى نحو اي علاج


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.