يؤكد العديد من المحللين من اليمين، كما من اليسار، أن العولمة تلتهم الدولة القومية منذ أكثر من عقد من الزمن. فالدول لم تعد تمتلك القدرة على التحكم في سياساتها الاقتصادية، ولا مراقبة حدودها. أما سياداتها فستتآكل نهائياً، وستكون لأنشطة الشركات المساهمة العملاقة العابرة القوميات، والحركات الهائمة لرؤوس الأموال، تأثيرات سيئة على الاقتصادات الوطنية للبلدان التي تهجرها، وستجد الدولة نفسها غير فاعلة في مواجهة الكوارث العالمية من تخريب البيئة إلى انتشار الأوبئة المعدية. إن هذا لا يجعلنا ننكر التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات في مختلف أصقاع الأرض، فالعولمة الاقتصادية والترابط المتنامي بين الدول وانتشار الفاعليات الاقتصادية العابرة القوميات، تمثل حقائق غير قابلة للنقاش. ومع ذلك فإن اطروحة عجز الدولة لا تشكل قناعة ناجزة عند الجميع. ثم ان تآكل السيادة يمس الدول بطريقة غير متساوية، فإذا كانت هناك تآكلات"خاسرة"، فهناك بالمقابل تآكلات"رابحة". وتبدو المقارنة صعبة جداً بين الدول الخاسرة، أي تلك الدول التي شهدت على أراضيها حروباً أهلية والديموقراطيات المزدهرة في العالم الغربي. فبالنسبة إلى بعض تمثل العولمة ظاهرة ايجابية وبالنسبة إلى البعض الآخر فهي مصدر للمشاكل التي لا نهاية لها في الظاهر. ويقسم المحلل السياسي البريطاني روبرت كوبير الدول إلى ثلاث مجموعات كبيرة: - دول"ما قبل الحداثة"أفغانستان، ليبريا، الصومال... وهي دول هشة، أو هي غارقة في الفوضى وضعيفة إلى درجة أن مفهوم السيادة لا يعني لها الشيء الكثير. - الدول"الحديثة"الهند، الصين، البرازيل... وهي ليست مستعدة كثيراً لتقديم تنازلات تتعلق بالسيادة القومية. - دول"ما بعد الحداثة"، مثل الدول الغربية القديمة، حيث يرتكز الأمن في قسم كبير منه على الترابطات المتبادلة لاقتصادياتها. وهي الدول الأكثر استعداداً للتفاوض حول سياداتها في مقابل تحقيق أرباح في مجالات أخرى. ومن بين هذه الأنماط الكبيرة من الدول، فإن نمط ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة من قبل الاشكالية"الآيلة للزوال"، وهو الوحيد الذي راهن على فتح حدوده، والذي يمثل تآكل مفهوم السيادة عنده معنى ما. والحال هذه، وهنا تكمن المفارقة، نجد دول ما بعد الحداثة هي التي تقاوم بشكل افضل"الهجمات"التي تتعرض لها. وبرهنت دول ما بعد الحداثة، بوصفها شكلاً من التنظيم السياسي والاجتماعي، على صلابتها في مواجهة التهديدات المتنامية، إذ أن هذه الأخيرة تتقدم من الآن فصاعداً في الدول الضعيفة، أو دول ما قبل الحداثة، أو حتى الدول القوية العصرية. فدول ما بعد الحداثة هي تلك التي تسود فيها مؤسسات سياسية ودستورية مستقرة، وهي مزدهرة اقتصادياً ومنظمة، بحيث تمتلك القدرة على جذب الشركات المتعددة الجنسية لنقل خطوط انتاجها إلى أراضيها، وعلى جلب الرساميل الباحثة عن الأمان والاستقرار والضمانات القانونية التي تضمن أمن الصفقات التجارية. وإذا كانت المنظمات غير الحكومية الكبيرة قادرة على تعقيد اللعبة الديبلوماسية الدولية لهذه الدول، إلا أنها تظل عاجزة عن تغيير سياساتها الخارجية بشكل جوهري. ففي كل المسائل المتعلقة بالنواة الصلبة للسيادة الوطنية والأمن ونموذج التنمية الاقتصادية والمصالح الاستراتيجية الحيوية، فإن المنظمات غير الحكومية لا يوجد لها أي تأثير عليها، إلا في المجالات التي تريد فيها هذه الدول أن تقدم لها بعض التنازلات. على رغم أن العولمة الليبرالية تقتضي تسليط برنامج اقتصادي اجتماعي شديد اليمينية يزيد من تعميق التفاوت الطبقي بامتياز داخل كل بلد، وتعميق الهوة بين اقلية تصادر الامتيازات وأكثرية بمئات الملايين تهوي إلى قعر لا قرار له، إلا أن انسحاب الدولة ليس عاماً ولا ذا اتجاه واحد. ومع أن السيادة تآكلت في كل مكان، إلا أن الدولة حافظت على امتلاك وسائل تدخل ضخمة. فهي قادرة على تنفيذ تعاونيات وتنظيم دفاع عن مصالحها وتقديم الدعم لفلاحيها. فالدعم الذي تقدمه الدولة الفرنسية للقطاعات الاستراتيجية الكبيرة للاقتصاد تؤكد لنا هذا التحليل. وحتى الولاياتالمتحدة التي تدافع بشراسة قل نظيرها عن العولمة الليبرالية، تقدم الدعم لشركاتها الكبيرة ضد المنافسة الدولية. وفي حال حدوث انقلاب قوي، تعود الدولة الى اتخاذ اجراءات تدخلية كما رأينا خصوصاً بعد أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001. وإذا كانت معظم الدول الأوروبية فتحت حدودها للتنقل الحر للرساميل والسلع والأشخاص، إلا أنها حافظت على غلق حدودها في وجه الشرطة والقضاء والجيوش للدول المجاورة، وهي ثلاثة ميادين لا تزال تحتفظ فيها الدولة بسيادتها الوطنية، ولا تزال النواة الصلبة للسياسة الخارجية والدفاع تحت سيطرة الدولة. وإذا كانت ثورة العولمة الليبرالية أنتجت في الطبقات العليا الأوروبية ما يشبه الاغراء في سيرورة"الاندماج الامبريالي"أو الزواج الامبريالي مع الامبراطورية الأميركية التي أصبحت الزعيمة العالمية للعولمة الليبرالية القائمة على اللامساواة، والتحول الاوليغارشي الذي يستهوي جميع الطبقات الحاكمة في كل مجتمعات العالم، إلا أن أوروبا لم تفضل الاندماج الكامل بالطبقة الاميركية الحاكمة، لأن النموذج الأميركي الخاص القائم على الرأسمالية من دون ضوابط، يشكل تهديداً للمجتمعات الأوروبية. إن هذا يجعلنا نقول إنه من المبكر الحديث عن زوال الدولة - الأمة كما تذهب إلى ذلك بعض التحاليل. إن الدولة - الأمة، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو في المانيا واليابان، حافظت على دورها التاريخي كناقلة أولى لتأسيس وإعادة انتاج العلاقات المجتمعية والوضع الطبقي وقوانين الملكية والعملة والعقود والأسواق، فضلاً عما انيط بها من مهمة تحقيق تراكم رأس المال على مستوى دولي. وحيث وجبت على الدولة إدارة الرأسمال المحلي على نحو يتوافق مع إدارة النظام الرأسمالي، جرى تدويل الدولة بما جعلها أبعد نفوذاً وطموحاً من الدولة - الأمة. وتنطبق هذه الحقيقة على الدولة الأميركية، بصورة خاصة، حين اضطلعت بموقع الريادة والرعاية للنظام الرأسمالي العالمي، بما جعل حماية مصالحها القومية تقضي بحماية مصالح القوى الرأسمالية كافة المنضوية في سياق ما يُعرف بالرأسمالية المعولمة. إن لتحرير الاقتصاد وفتح الأسواق وتعديل النظام الضريبي نتائج كارثية تضرب أي محاولة للنهوض وتُخضع دول عالم الجنوب لهيمنة شركات أجنبية ووكلاء محليين فاجرين، ويجعلها دولاً مستتبعة وفق الأسس النيوكولونيالية المستترة والمعلنة. كما أن الوجه الثاني للعولمة النيوليبرالية هو تعزيز الانطواءات الاتنية والطائفية والاصولية والتوترات الناجمة عنها. وجها العولمة النيوليبرالية هذان متلازمان ويقدمان تكذيباً يومياً للمزاعم القائلة إن العالم يتوحّد وإن أسوار الحماية تنهار أمام زحف رأسمالية تصهر الأقوام والشعوب. كلا، ان ما يحصل فعلاً هو مزيج من توحد وتشرذم يقضمان الدولة - الأمة من فوق ومن تحت، ويهددان بفوضى عالمية هائلة إن لم يصر الى تصحيح مسارهما. ففي نظر العولمة الليبرالية المدافعة عن حركية رأس المال المتحرر من اي روابط قومية، والذي يجب أن يستقر حيث تمليه المنافع الاقتصادية، أصبحت الدول التي تدافع عن مفهوم السيادة والحقوق الواسعة النقدية والضريبية المضادة لتطلعات الأسواق الكونية والشركات العابرة القوميات والحماية الاجتماعية للعمل، بالية ومتخلفة. إن الخطاب الايديولوجي للعولمة الليبرالية الذي يمجد الحرية المطلقة لحركة رأس المال العالمي والتجارة الحرة والشركات العابرة القوميات وأسواق رأس المال العالمية المتحررة من كوابح السياسة، يعتبر الدولة القومية مجرد وكيل محلي للنظام الامبراطوري الأميركي الكوني، أو مجرد بلدية تقدم تلك الخدمات الاجتماعية والعامة التي يراها رأس المال العالمي ضرورية. وفضلاً عن ذلك، فإن خطاب العولمة هذا هو خطاب المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، وهو يستند الى عقيدة نيوليبرالية مناوئة للسياسة القومية. في مؤلف صغير صدر حديثاً في لندن للمؤلفين ليو بانيتش وسان غيندين"الرأسمالية المعولمة والامبراطورية الأميركية"، يؤكدان فيه أنه لا يجوز اختزال الدول إلى أسواق والتعامل مع الامبريالية كمحض نظام رأسمالي متطور ومحكوم بجملة من الشروط والمعايير الاقتصادية المجردة. فتعيين الرأسمالية والامبريالية يقضي عدم التوقف عند نظرية المراحل والأزمات الاقتصادية، وإنما الفصل بين الاثنين، الرأسمالية والامبريالية، وذلك من خلال التوكيد على الدور الأساسي للدولة... ولئن أدى نجاح الولاياتالمتحدة في طي القوى الرأسمالية الأخرى في فلك امبراطوريتها غير المباشرة إلى إبطال نظرية التنافس الامبريالي التقليدية، فإنه لم يكن نجاحاً كافياً كي يجنبها تحدي تلك الدول التي، وإن وقعت في المدار الرأسمالي العالمي، فإنها لم تتطور تطوراً رأسمالياً ييسر دمجها في النظام الرأسمالي المعولم. هذا التحدي سرعان ما انقلب إلى مواجهة دموية في غير بقعة واحدة من العالم. فمع تبني الدول الغربية لسياسة نيوليبرالية، ليس فقط في حدود نهج اقتصادي يحض على تعميق مجال السوق الحرة وتوسيعها، وإنما من خلال التصدي للقوى السياسية الديموقراطية الراديكالية، فإن محاولة التدخل في البلدان العالمثالثية والأوروبية الشرقية لم يعد مقتصراً على محاولة"تصحيح اقتصاد"هذه البلدان ودمجها في الامبراطورية الأميركية من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات الدولية، ومن ثم فإنها سرعان ما انقلبت الى تورط عسكري أجاز الوصف، أو النعت، المتأخر للسياسة الخارجية الأميركية بأنها سياسة امبريالية. يدور في قلب الحركة المناهضة للعولمة نقاش عميق، يساهم فيه عالم الاجتماع سامي نعير استاذ العلوم السياسية في جامعة باريس والنائب الأوروبي القريب من جان بيار شيفنمان وزير الدفاع الفرنسي السابق، من خلال كتابه الأخير"الامبراطورية في مواجهة التنوع". ويتمحور النقاش حول أنجع السبل الفعالة لمواجهة الرأسمالية الجديدة المعولمة التي، حسب قول سامي نعير، تتوسع الى حدود"امبراطورية تجارية"من الآن فصاعداً. وإذا كانت الأمركة -"الامبريالية في الامبراطورية"- تقدم لنا وجهاً لهذه السيرورة، فإنه لا يمكن لنا مع ذلك أن نخلط هذا"النظام - العالم"مع الهيمنة الأميركية الشمالية. يرى بعضهم أن مقاومة الامبراطورية الأميركية تتطلب بناء"أممية"جديدة، حيث تشكل قمم العولمة الرأسمالية من سياتل إلى فلورنسا، مناسبات لتنظيم المقاومة ضد النيوليبرالية عن طريق بناء مجتمع مدني حديث، هو معلوم ايضاً. أما عند بعضهم الآخر، ومنهم سامي نعير، فإن"الدولة - الأمة"تظل الأداة الرئيسة للدفاع، وما هو الدليل على ذلك؟ يقول سامي نعير: إذا كان هناك مكان في العالم حيث لا يتم تضييع الوقت في نقاشات عقيمة حول"الأزمة"أو"نهاية"الدولة - الأمة، فهو بكل تأكيد في الولاياتالمتحدة. هناك المسألة تكمن في كيفية تأخذ على عاتقها قيادة العالم. أما الحل من أجل احياء التعدد والعدالة لمواجهة الامبراطورية الأميركية المفرطة في قوتها، فيمر من طريق أوروبا أيضاً. أوروبا ممكن أن تكون حليفاً لقطب روسي سينجز في النهاية"الانتقال إلى الديموقراطية". ليس لأوروبا مشاكل خاصة مع العالم، على عكس الولاياتالمتحدة، فهي في تفاعل تجاري متبادل عادي مع بقية دول العالم، تشتري المواد الأولية والطاقة التي تحتاج إليها وتسدد ثمن وارداتها من ثمن صادراتها، وتقوم مصلحتها الاستراتيجية في الأمد الطويل على السلام. في حين أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ترتكز أكثر فأكثر على راعيين أساسيين مع خصمين مجاورين لأوروبا: الأول روسيا، التي تشكل العائق الاساسي في وجه الهيمنة الأميركية ولكنها أقوى من أن تقهر، والثاني العالم الإسلامي، وهو"خصم مسرحي"يستخدم لاستعراض القوة العسكرية الأميركية وأوروبا ذات المصلحة بالسلام، خصوصاً مع هذين الجارين، تجد أهدافها الاستراتيجية من الآن فصاعداً على تناقض مع الأهداف الأميركية. * كاتب تونسي