ليس ثمة سبيل قاصد لتفعيل الحراك الفكري وإمداد المجتمعات بالرأي الفقهي الدقيق الذي يعيد الاعتبار للمسلم أمام هيمنة الإسلاموي إلا عن طريق الاجتهاد، إذ هو ضرورة إنسانية وله دور مشهود في إثراء الحياة الفكرية، وهو شاهد جلي على ديمومة الفقه التشريعي وأنه قادر على مسايرة....... ....... الزمن وعلى التغطية الشمولية لكافة مناحي الحياة. القيمة المحورية للفعل الاجتهادي تتجلى من خلال التأمل فيما يلي: أولاً: أن النصوص الشرعية محصورة تتسم بالتناهي، بعكس القضايا والشؤون الحياتية فهي تتنامى وعلى نحو مكثف يفضي تلقائياً إلى تصاعد معدلات الحراك الاجتهادي. هذا الحراك - حتماً- له معياريته السائرة وفق قانون اطرادي ثابت. في كل برهة زمنية تستجد مسائل وتتجدد أحداث وتتوالد وعلى نحو غير متناهٍ سلسلة من النوازل التي تتخلق بشكل تناسلي وعلى نحو لم يعهده البشر, والتي تشكل محرضاً قوياً على الاجتهاد الذي يتم عبره إضاءة عدد من القضايا التي يلفها الظلام وتجلية الكثير من الحيثيات التي يكتنفها الغموض الضبابي. إن الشرع بطبيعته التكوينية كُلٌّ متكامل على غاية من الدقة والترابط ينتظم الأنماط الحياتية في مختلف ضروبها فيحتاج إلى إثبات أحكام شرعية لتلك النوازل والمستجدات بعمل هو الاجتهاد، وذلك عبر إثبات الأحكام الشرعية عن طريق الأدلة التفصيلية إذا كان ثمة دليل فردٌ حاكم في النازلة, أو بردها الى نظائرها وهو ما ينعت ب(القياس), أو العودة بها إلى القواعد الشرعية العامة التي تندرج تحتها, مثل قاعدة تحريم الضرر (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة (رفع الحرج) وقاعدة (تحريم الخبائث), أو بالأوبة إلى مصادر التشريع الأخرى ك(المصالح المرسلة) أو (الاستحسان) أو (العرف) وسوى ذلك. ثانياً: نصوص التشريع يتم التعاطي معها من ناحيتين: الثبوت والدلالة. فأما النص القرآني فهو قطعي الثبوت وذلك بعكس أكثر النص الحديثي فهو ليس قطعياً في ثبوته, ولابد أن تتوفر له الصحة من حيث مصدريته, وأن تتوفر له صوابية الجانب الفني المتمثل باشتراطات النقل والتوثيق. النصوص الدينية بطبيعتها نائية الغور, وملامسة معطياتها العميقة, وإدراك رمزياتها من القضايا التي تحتاج إلى نوعية عالية من التركيز الذهني المنهج, فيلزم لإثبات صوابية نص مّا تكثيف الاشتغال الذهني المبرمج, ومضاعفة إنفاق الطاقة واستنفار الوعي الاجتهادي لاستكناه رجال السند, ووعي حقيقة المتن وسبر أغوار العلاقة بين الدال والمدلول والنظر في دلالاتها على المقصود ليثبت بها حكم من الأحكام. ثالثاً: أن ثمة عوارض تعرض للأدلة, فهناك: التخصيص والتقييد وثمة تعارض فيما يتجلى للمعاين - في أول الأمر- بين النصوص ولا بد من ناظر لدفع ذلك التعارض المتوهم وزحزحة تمظهراته عبر الجمع بين النصوص وإبراز حقيقة التناسق الاتساقي فيما بينها، فيكون ثمة نص مخصص لنص, ونص مقيد لنص, ونص مجلّ لنص, ونص ناسخ لنص وهكذا. وهذا الشأن يحتاج إلى من يملك قدرات متناهية البحبوحة وكفاءة جليلة المستوى، وهو ذلك المجتهد الذي تعالت سوية معاينته للنصوص على نحو أكسبه مهارات فقهية فائقة تتيح له فقه قوالبها الأسلوبية والبصيرة المفصلة بمتباين أبعادها. لابد أن يجري العمل الاجتهادي على أسس منهجية سليمة, وذلك من خلال تملّك عدد كبير جداً من الخبرات والمفاهيم التي ترشح لتخلّق سلوك اجتهادي مبني على ضوء معطيات بالغة الموضوعية. هذه المعطيات غائبة عن ذلك الخطاب التكفيري- وهو خطاب فتنة إستراتيجي- فهو عندما يتلبس بالاجتهاد لا يتغيا من وراء ذلك مجرد ما يشي به منطقه السلوكي في تمظهره العملي, وإنما يستدعي الاجتهاد كآلية براجماتية يمارس النفي التدميري بواسطتها, إذ إن الاجتهاد غطاء واقٍ يشرعن به أداءه ويمنحه ما يحتاجه من التبرير المنطقي. الاجتهاد هنا ملاذ آمن يتيح له - في هذا السبيل المحفوف بالمخاطر- عدة مخارج عندما يروم الهروب وتجاوز ما يعترض سبيله من المآزق الفكرية. إذاً الاجتهاد هنا يبيت عامل قلق إضافي ينهش السكون الجمعي ويحرمه من فرص التنعم بالهدوء. المسألة لا تعدو أن تكون سوى توظيف براجماتي للبعد الاجتهادي لجني أرباح أيديولوجية وتحقيق مكتسبات ذاتية لا تتجاوز الإطار الأنوي من وراءه. لقد تواضع أرباب الاختصاص على جملة من الاشتراطات الاجتهادية من شأن التوافر عليها تكوين ذلك الفاعل المعرفي المنتمي إلى الطراز النخبوي الرفيع, والذي يتوافر على ما ينبغيات المقاربة الاجتهادية. هذه الشروط حينما يجري ضبط الإيقاع الاجتهادي على ضوئها فإنها تحفظ للاجتهاد مكانته وتستبقي له غايته الجليلة وتقيم سياجاً صلباً يمنع غير القادرين عليه من التسلق إليه أو التسلل صوب حماه, تلك الضوابط تتيح فرصة معاينة الحالات والوضعيات عبر عدة آفاق متباينة, وتحمي الفاعل الفقهي من الصيرورة إلى الخيار الأسوأ. ولكن من يتمعن بآلية مسحية استقصائية- والبعد النسبي معتبر بطبيعة الحال - في أطروحات التكفير على تباين قوالبها يجد أنها تفتقر إلى جملة من هذه المحددات المؤهلة للمقاربة الاجتهادية والمرشحة للاشتغال على إثبات الأحكام الشرعية عن سبيل الأدلة التفصيلية مما يجعل من اجتهادها الذي يراد له أن يكون تحركاً نحو الأسمى, باعثاً على التراجع صوب الأسوأ. ففي مجال النص القرآني يعزب عن هذه الذهنية الوعي الشمولي العميق بدلالات المفردات وما تختزنه من حمولة إيحائية, ولا تدرك مؤديات فحواه ولوازم مفاده ومقتضياتها الكبرى. أما أسباب النزول فهي في الغالب ليست في متناول هذا الوعي, ولذا فهو لا يعيرها ما تتطلبه من اهتمام. ولا يكلف- نتيجة لكسله القرائي- ذاته بتجشم عناء البحث عنها في بطون الأسفار. أما في مجال الحديث الشريف فتتوارى عن إدراكه المعرفة الموضوعية بالنصوص الحديثية المتعلقة بالأحكام سواء كانت في الجانب القولي أو الفعلي أو التقريري وما يتعلق بها من جهة الثبوت والصحة. ولا غرو, فالسلوك الاجتهادي لديه ليس نابعاً من فاعليات عقلية مهما دنى مستواها بقدر ما هو إفراز طبيعي لحراك وجداني يتملكه في الاعماق. هذه الذهنية لديها جهل فسيح ممتد الآماد رحب الأرجاء بمواقع الإجماع، ولذلك كثيراً ما يتخلق الحراك الفتوائي لديها عبر آليات تناهض الإجماع وتتمرد على مواضعاته. أيضاً يعوز هذا الطرح البصيرة الفقهية في ميدان قواعد اللغة العربية وسبل دلالاتها على مدلولاتها. ويفتقد هذا الخطاب إلى الإدراك الذهني المفصل للمقاصد الشرعية وقواعدها العامة، وليس لديه خبرات كافية بواقع الناس وأحوالهم والعادات الحاكمة لمنهجهم السلوكي وذلك لأن وعي النصوص متوقف على معرفة كل ذلك. كما أن الأحكام الجزئية قافلة إلى أصول كلية وقواعد أصولية وأهداف عامة إذا أحاط بها وعياً أمكنه أن يوفق بين هذه الأحكام وعند التعارض بين المصالح, أو بين المصالح والمفاسد, أو بين المفاسد, يرجح ما هو أقرب إلى مقاصد الشارع. أيضاً هذا الخطاب يعاني من شح معلوماتي في مجال القياس وتضاؤل معرفي إلى حد الخواء فيما يتعلق بأركانه وأقسامه ومحدداته الاشتراطية, الشأن الذي قزّم من كفاءته وحدّ من مقدرته على استنباط الأحكام غير المنصوص عليها وردها إلى نظائرها المنصوص عليها, أيضاً يعاني من انخفاض سويته الثقافية ووهن إدراكه المعرفي لعلم أصول الفقه وبخاصة ما يرتبط بإدراك الأحكام واستدرارها الاستنباطي. ومن المعروف أن مدار الاجتهاد, على الفقه الواعي لأصول التشريع وطرائق الاستنباط وعوارض الأدلة وسبل دفعها. هذه الجملة من الملاحظات هي التي تدفع بهذا الخطاب نحو الإخفاق التام والفشل الذريع عندما يمارس الاجتهاد فتأتي النتائج عكسية وتلقي بظلالها الكالح على كافة معطياته الفكرية. ولا غرو فالاجتهاد من غير أهلية ومع الافتقار إلى أدواته المؤهلة له ليس إلا ضرباً من الفعل الرغبوي الذي قصاراه لا يعزز إلا أنماطاً من الرأي الشهوي وألواناً من التخبطات التى إن دلت فلا تدل إلا على اتباع أعمى للأهواء الأنوية والانشداد إلى محاورها ذات الطابع الشخصي المباشر. إذا ما أريد للاجتهاد أن ينمو ويتألق في المسار الصحيح فلابد من إعلاء الملكات العقلية للمتلبس به، إذ إن مباشرة الفعل الاجتهادي من غير التوافر على ما ينبغياته يفقده شرعيته فيبيت عديم القيمة, بل يستحيل إلى قيمة تخريبية في الصميم, ومن شأنه حينئذ الصيرورة إلى الضلال والإضلال حيث يضِل الفاعل ثم يصدّر ضلاله عبر الفعل التضليلي إلى الغير، ثمة جهل وثمة تجهيل فهو من جهة يجهل بتبنيه لآراء قافزة على الحقيقة النصية وامتلاكه لمعرفة مشوهة تمده بصور ذهنية معدِمة موضوعياً ولا تنسجم والمنطق الواقعي, ومن جهة أخرى يمارس التجهيل عبر شرعنة تسويق هذا الجهل وشعبنة تعاطيه وتعميق الارتباط الجماهيري بمعطياته وصياغة ذهنية كلية متخمة بألوان التشوهات الثقافية, يعزز هذا, ذلك الطرح النبوي الكريم الذي أكد على أن (الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). العقل الجمعي عندما يتماهى مع ذلك الاجتهاد اللامسؤول ويلتزم مؤدياته ويطرد معطياته القولية فيبني عليها ويستدعيها لتبيت حاكمة لسلوكياته فإنه حينئذ يدلف في التيه الذي قد لا يكون له نهاية, ويضل السبيل الآمن الى الحقيقة المتوخاة, ولا ريب أن تبعة الحكم هنا تكون على من تصدى للاجتهاد ورشح ذاته للفعل الفتوائي وهو ليس من أهله. خطاب التكفير لا يبيح الاجتهاد بل يوجبه حتى على من يفتقر لمرشحاته وهو بذلك يخالف جماهير الأمة الذين يفصلون في هذا الحقل فيبيحون السلوك الاجتهادي للقادر على تجسيده ويجيزون التقليد لعادم القدرة الفاقد للكفاءة بل ويجيزون التقليد ولا يوجبونه للقادر على الاجتهاد لكن تخلفت قدرته نتيجة لتكافؤ الأدلة, أو لضيق مساحة الوقت عن الاجتهاد, أو لعدم تجلي دليل له، فهنا حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه واستدعى ما يقابله وهو التقليد. أما خطاب التكفير فهو على العكس من ذلك إذ إنه يُحمل المجتمع ما ينوء بحمله ويكلف أفراده بما يرهقهم الاستجابة له ويلزم الناس كلهم بالاجتهاد مع أنه خارج نطاق مكنتهم كما نرى عند أحد رموز التكفير وهو (شكري مصطفى) حيث يقول في معرض نعته للجماعة المسلمة - طبعاً يقصد جماعته الخاصة-: (هي جماعة واحدة لها أمير واحد, سندها كتاب الله والسنة, يكفرون بالتقليد, وكل مسلم فيها مجتهد لا مجال فيها للفرق والمذاهب والأحزاب بل كلها حول أميرها معتصمون بحبل الله). انظر (الحجيات) 14، العقل التكفيري يشطح بعيداً في مجال الاجتهاد حيث لا يجد غضاضة في أن يجتهد في البديهيات القطعية التى لا اجتهاد فيها وفي الجوانب المعلومة من الدين بالضرورة, ويعمل على استنبات رؤى مفتقرة لما يمنطق حمولتها, ومن ذلك أن جماعة شكري مصطفى دشنت لفتوى توجب إيقاف صلاة الجمعة وتجرّم اقامتها فقالوا: (إن فريضة الجمعة لها شروط إذا توافرت أقيمت الفريضة وإلا توقفنا عنها حتى تستوفي شروطها وشرطوا في إقامة الجمعة التمكين في الأرض فلا جماعة مع الاستضعاف). انظر (رجب مختار مدكور) (التكفير والهجرة وجهاً لوجه) (199 - 200).