جدير بكل مسلم ألا يفوته اغتنام فرص استذكار الحوادث والتاريخ، يقف عندها ويتدبر أسرارها ومعانيها، ثم يستفيد من كل تلك الجوانب العطرة خاصة ما يتعلق بالسيرة النبوية الشريفة، فما أروع أن ننظر في دروس الهجرة النبوية الشريفة من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة وسيرته العطرة ورسالته الخاتمة فقد كانت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، ولم يقل الله - عز وجل - رحمة للمسلمين ولا رحمة للمؤمنين لأن المبادئ التي جاء بها تتلخص وتتركز في الرحمة لا خوف على من يخالفنا في العقيدة، لا خوف على من ليس من وطننا أو يخالفنا في دين، بل إن الجميع يكونون في رحمة وفي أمن فأرسل الله تعالى سيدنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين.. ولننظر بعمق في فصول الهجرة ودروسها، ونتعلم منها جوانب مضيئة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، ويزداد التأكيد على هذا الأمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعرض للعديد من الاستهزاء والسخرية والتشويه من أحلاف الشيطان وأعداء الله وليس أولها وآخرها الحملة الإعلامية المسعورة والسخرية والاستهزاء بالرسوم الكاريكاتورية في الصحافة الدانمركية تجاه شخصه - صلى الله عليه وسلم - . ولقد أخبرنا القرآن الكريم عن فساد هؤلاء وفسقهم الماضي والمستمر وهو الغالب قال تعالى:{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}(110)سورة آل عمران، ولقد كانوا ولا زالوا بدسائسهم وتآمرهم وحقدهم وراء كثير من أمهات الفتن الفكرية والشعبية والثورات والقلاقل والحروب وكان من أساليبهم تسويق الباطل صراحة، وأنبياء الله - عليهم السلام - واجهوا من ذلك الكثير في حياتهم، وبعد مماتهم فقد وصفوا عيسى - عليه السلام - بالملك الكذاب وغشاش بني اسرائيل وابن الزنا واتهم يهوذا بن يعقوب - عليه السلام - بأنه زنى وقالوا قبحهم الله إن لوطاً - عليه السلام - سكر وثمل وزنى بابنتيه كما يزعمون أن داود - عليه السلام - زنى بزوجة أحد قواده ثم قتله ليتزوجها فولدت منه سليمان - عليه السلام - ، كما ادعوا على هارون بأنه عَبَدَ العجل، وأن نوحاً - عليه السلام - سكر وتعرى من ملابسه من الثمالة، بل ودم الأنبياء - عليهم السلام - رخيص عند آباء وأجداد هؤلاء لذلك قتلوا عدداً كبيراً منهم. كما نتذكر من دروس السيرة قصة الكتاب الذي أرسله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم، وقبل أن يفتحه هرقل ويعرف ما فيه حين علم بالقوم الذين قدموا إلى الشام في ركب من التجارة وفيهم أبو سفيان استدعاهم ليسألهم عن هذه الدعوة التي سمع بها وعن هذا الرسول الذي سمع به فلما جاؤوا وسألهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال لهم قربوه وأخذ عن طريق الترجمان يسأله عن نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل كان في آبائه ملك؟ وهل قال هذا القول أحد قبله؟ إلى آخر الأسئلة التي وجهها إليه ومنها أسئلة تتعلق بشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخرى تتعلق بمن اتبعه من الناس، وأحوال الذين آمنوا به ومنها ما يتعلق بالدعوة نفسها وبعد أن استمع إلى الإجابة أخذ يستخدم المنحة الربانية وهي العقل ويستنتج من أسئلته وأجوبته قائلاً: سألتك عن نسبه فيكم فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل كان في آبائه من ملك.. فذكرت أن لا.. فقلت لو كان في آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فذكرت أن لا.. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حين يتم، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سقطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يكذب.. فذكرت أن لا.. وكذلك الرسل لا تكذب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر.. وسألتك: بماذا يأمركم.؟ فذكرت أنه يأمركم بعبادة الله وحده لا شريك له ونبذ عبادة الأوثان ويدعوكم إلى الصلاة والعفاف والصلة، ثم يكون هرقل النتيجة الأخيرة ويقول بعد أن ذكر هذه الإجابة: وقد كنت أعلم أنه خارج.. ولم أكن أظن أنه منكم.. فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدميه، وبهذه النتيجة الأخيرة التي يصل فيها إلى أنه رسول حقاً وأنه يتمنى أن يتبعه.. يقول: إنه يعلم إنه خارج إلى آخر ما قال كناية عن منتهى الاتباع والخضوع والطاعة لهذا الرسول العظيم - عليه أفضل الصلاة والسلام - ثم كانت قراءته للكتاب الذي يدعوه فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله:( أسلم تسلم يؤتك أجرك مرتين)، ثم كان من اقتناعه ثم رجوعه خوفاً على ملكه. فأين هؤلاء مما تقرر لدى هرقل وإن لم يؤمن بما جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم، ثم ليعلم هؤلاء المرضى الذين تجرأوا بسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الإسلام يقوم على ثوابت وأصول وقيم وآداب محددة، تضبط حياة الناس وتصرف شؤون دنياهم على أساس توحيد الله وإخلاص العبودية له. وقد جاء الإسلام بشريعة شملت الوجود الإنساني كله فيها من الحكمة والمرونة ما يساير الوجود الإنساني في كل زمان ومكان، ووضع من القواعد ما تستقيم به الحياة، وتوقير الحياة وإعلاء الكرامة الإنسانية، وهو نقيض الحرب والعنف والألم وصنو الرحمة والمحبة والطمأنينة، ذلك أن الشريعة الإسلامية - باعتبارها وحياً إلهياً - تنفرد باحترامها لإنسانية الإنسان من حيث هو إنسان لا من حيث هو خاضع لسلطانها أو معتنق لملتها. فلم يبلغ الارتقاء في إقامة العدل بين الناس إلى الحد الذي يعامل فيه الأجانب معاملة النفس إلا في الإسلام، الذي بادر إلى تطبيق حقوق الإنسان أعدل التطبيق على الجميع دون استثناء. يقول الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(90)سورة النحل. إننا في الإسلام نؤمن بضرورة التعايش البشري والتآلف الإنساني، ونبذ التمييز بين الناس على أساس الجنس أو اللون أو القوم، وإن القيم الربانية وتقوى الله هي أساس الخير والتحاب والتفاضل بين الناس، كما في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(13) سورة الحجرات، كما قرر الإسلام أن الاختلاف سنة من سنن الله في هذا الكون:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }(19)سورة يونس، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} (112) سورة الأنعام.؟ ولنستفيد نحن من هذه المواقف العدائية السلبية دروساً إيجابية من خلال مبدأ الثبات على المبدأ ففي سبيل هذا المبدأ تحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - الكثير من الأذى فما لانوا ولا استكانوا وصبروا وتحملوا وفي هذا نموذج للمسلم ألا يضعف أمام كيد الشيطان وأمام كيد أعداء الإسلام وطالما أنه على الحق فإن الله سينصره. ويقتدي في ذلك بهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فقد عملوا على قتله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة السم الذي دسته امرأة من اليهود في ذراع الشاة التي قدمت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه جبريل بالخبر وانكشف الأمر وظلوا على هذه الدسائس والعداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدين الإسلام واستمرت مكائدهم للمسلمين بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولا يزالون إلى اليوم يمكرون بالمسلمين ويعادونهم ويؤلبون عليهم وأعداء الأمس هم أعداء اليوم بل إن أعداء اليوم أشد قوة وبأسا وإن ما نراه اليوم امتداد لتاريخ أسود فقد خالفوا أمر الله ورسله - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين يقتلون أبناء المسلمين ويكذبون على العالم ويخادعون ويزيفون ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(30)سورة الأنفال. وختاماً دعوتي لكل من يريد أن يذب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فليعمل لنصرة دعوته ونشرها بما يستطيع، وليتخير لذلك أفضل الأساليب، وأرقى التعبيرات، بعيداً عن التشجنات التي تضر ولا تنفع، وبعيداً عن التعميم، ففي القوم عقلاء ومنصفون يجب كسبهم، وفي بعض من يتهجم علينا جهل مطبق، وتقليد أعمى، واجب علينا بيان وجه الحق لهم، عسى أن يتبينوا الصواب فيتبعوه، وهذه أفضل وسيلة للرد على هؤلاء الذين يريدون أن يطفئوا هذا النور، وإذا كان أهل الباطل قد برعوا في استخدام الوسائل الحديثة من فضائيات وإنترنت وغيرها للترويج لباطلهم، فنحن أولى منهم في تكثيف جهودنا، ودعم تعاوننا لتنشيط دعوتنا الإسلامية العالمية، والرد على دعاوى الخصوم، ومحاولاتهم تشويه صورة الإسلام، وإلصاق التهم الباطلة بالدين الحنيف.