إن المتأمل في أحوال أمتنا العربية المأساوية في هذا الزمن وما تمر به من أحداث جسام وتحولات جذرية يجد أن كثيراً منها تحدث بسبب ممارسات وأفعال تصدر من بعض أفراد الأمة نفسها من دون تجاهل للأيادي الخفية لأعداء الأمة المتربصين في إشعال الفتن والاضطرابات هنا وهناك لتمزيق الأمة وتشتيت جهودها وإرباك مسيرتها. ولكنهم لم يكن بمستطاعهم تحقيق مآربهم وخططهم الشريرة لولا أنهم وجدوا ثغرات من صنع أبناء الأمة وأرضا خصبة تستجيب لهذه الخطط وتعمل بجهل وحماقة لتوسيع دائرتها المدمرة في جسد الأمة المثخن بالجراح! إن المتأمل في هذه المشكلة والطامح لتحليل أبعادها الخطيرة بعمق ودقة لا يكفيه مقالة صحفية ولا نظرة عابرة فهي من الاتساع والتجذر بدرجة تحتاج إلى دراسات معمقة وتحليلات سابرة تشخص الداء وتصف الدواء. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وحسبي الإشارة لكل لبيب بكلمات وقادة شحذاً للهمم وإيقاظاً للغفلة؛ عسى أن يسعفنا التدارك لصد الهجمة وتماسك الصف في سبيل تدبير محكم لأمورنا أحسن وتخطيط لمستقبل مسيرتنا أبصر. وعليه فسأشير في عجالة إلى ما عنونت به المقالة من ضرورة الوعي بفقه الموازنات الذي يعد من أهم أبواب فقه المقاصد الشرعية لا غنى عن إدراكه والإحاطة به لكل من يعنيه مستقبل أمته ومصالحها، بل لا أبالغ إن قلت إنه لا غنى لكل فرد من أفراد الأمة ذكراً كان أو أنثى كبيراً أو صغيراً عن تعلمه ومعرفة مبادئه حتى تكون خطواته مبصرة ومسددة في أمور دينه ودنياه. فهو المنظار الواضح المعين بإذن الله على اتخاذ القرارات السليمة والخطوات الصائبة؛ فهو ضياء الحكمة الذي يضع الشيء في موضعه والفعل المناسب في وقته ومحله. ولو فقهت الأمة العلم به وتشربت عقول أبنائها مبادئه لما خطت خطوة ولا تصرفت تصرفاً إلا بعد تأمل دقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد المتحققة من هذا التصرف، فهو العاصم بإذن الله من الزلل والتهور الفردي والجماعي. فكان حريا بنا الاحتفاء به وتعليمه كمنهج أصيل في محافلنا التعليمية كمادة رئيسية بأسلوب عصري سهل المنال. لا غرو أن كثيراً من أبناء الأمة وخاصة فئة الشباب متحمس لنصرة أمته والسعي لعزتها ودفع الظلم عنها وهو نحسبه مخلصا في حماسه وتفاعله. لكن هذا الحماس والتفاعل لا يكفي ما لم تصاحبه نظرة ثاقبة ومعرفة شاملة بحقيقة الواقع من جميع أبعاده ومحاوره ثم إدراك عميق للعمل المناسب لهذا الواقع بما يحقق المصالح ويدفع المضار وإلا كان هذا الحماس والتفاعل حماسا أعمى وتفاعلا متخبطا يضر ويفسد من حيث أراد صاحبه النفع والإصلاح. كم هي الأفعال الخرقاء التي جرت على الأمة الويلات والمصائب كان مصدرها أناس يرومون الإصلاح ويسعون إلى الخير ولكن لما فقدوا الوعي بفقه الموازنات والقياس الرشيد بين المصالح والمفاسد زلت بهم الأقدام وانقطعت بهم السبل فأفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح وهدموا من حيث أرادوا البناء. وانظر إلى حال الأمة العربية اليوم كيف هي تتخبط في مهاوي الردى دون خطام، وما يزيدها سيل الدماء إلا انغماسا في حمأته وإمعانا في جهالات تنبئ عن فقدان للوعي بهذا الفقه المنير، وكأن الأمة قد فقدت الحكماء فانفرط عقدها وصارت في لجة من التدافع المحموم الذي لا يلوي على شيء. والعدو يتباهى فرحاً مسروراً بإيقاد نار الفتنة وزيادة سعارها حتى لا تبقى على شيء إلا جعلته هباباً وخراباً. ينبغي أن نعلم الأجيال فقه الموازنة بشمولية ووضوح حتى يدرك الشباب أنه ليس هناك خير محض ولا شر محض وأن الأمور لا تؤخذ غلاباً مطلقاً بل تخضع لموازنات وتقديرات لا يعرف كنهها إلا من حاز فقها عميقاً بالمقاصد الشرعية ومعرفة بالواقع وتداخلاته مع مهارة فطرية ومكتسبة في استقراء المستقبل وتقلباته وفق معطيات ومقاييس صحيحة ومعلومات موثقة. فهل نستيقظ قبل فوات الأوان ونلملم الجراح ونركز جهودنا على البناء والتطوير ونشغل طاقاتنا بالتعاون بعيداً عن التشاحن والصراع الذي لن يفضي إلا إلى مزيد من الفرقة والتشتت والضعف؟ ونستفيد من طاقات أبناء الأمة الوثابة في العمل المنتج وفق مشروع تنموي شامل بعيد المدى دون تردد أو تلعثم يعيق المسيرة ويثقل الخطى الواثقة. فلنشمر عن ساعد الجد ولندرك خطورة الوضع الراهن ولنحسن التحاور ونهذب دوائر الاختلاف بأن نجعل رائدنا المخلص مصلحة مجتمعنا وأمتنا ليس إلا بعيداً عن الصراعات الفكرية والاختلافات المذهبية والفئوية؛ فالخطب جلل والمستقبل يحتاج إلى تدارك أسرع وتدبير أصوب بعمل جماعي متكاتف مبني على معالم واضحة ورؤى صائبة رائدها تحصيل المصالح وزيادتها ودفع المفاسد وتقليلها. عسى الله أن يسدد الخطى ويوفق المسير. والله الموفق. ص ب 31886 الرياض 11418 فاكس: 4272675