نسمات باردة تهب على المصلين في الحرم المكي في أوقات القيظ وشدة الحر المعروفة به مكةالمكرمة، وكنت أظن - كما يظن غيري - أن هذا من قوة أجهزة تكييف الهواء المبثوثة في كل نواحي الحرم الشريف، لكني حينما أتأخر في بعض الصلوات عن الحضور مبكراً فلا أستحب أن أتخطى رقاب الناس - حتى لو كانت معي عصا موسى وأقصد بها طيبهم وتفسحهم - فأصلي في الساحة المحيطة بالحرم، وقد صليت في الساحة المقابلة للمسعى أكثر من مرة، وكانت غاصّة بالمصلين وقت صلاة التراويح، وشعور بحرارة الجو وتوقف الهواء رغم هبوط المساء ظل يلازم الكثير من المصلين تلك الليلة حتى أصبح موضع حديثهم، وما أن بدأت الصلاة وشدا إمام المسجد الحرام بكلام الله حتى بدأت نسمات باردة تصافح وجوهنا من حين لآخر وكأن نافذة من الجنة قد فُتحت علينا.. هواء بارد منعش طري كأنه قد امتزج برذاذ من ماء زمزم المبارك. وعجبت ولا شك أن ذلك العجب خامر غيري، ولو ظننا أنه نفحات باردة تخرج من هواء التكييف داخل الحرم فإن المسافة الفاصلة بين أبواب المسعى والمكان الذي أُصلي فيه بعيدة ومزدحمة بكتل بشرية من المصلين. وفي اليوم التالي لم أجد متسعاً لدخول المسجد الحرام بسبب حرص المصلين وقت صلاة الظهر على الصلاة داخل الحرم فصعدت إلى الدور الثاني فلم أجد مكاناً، ولم يبق أمامي إلا مواصلة الصعود إلى السطح المكشوف على الشمس إلا مساحة مغطاة لا تزيد عن8x10أمتار كانت قد امتلأت بالمصلين أيضاً لكن صدورهم اتسعت لي فوجدت مكاناً بينهم.. كانت حرارة الشمس أقوى من أن أحتملها حافي القدمين، وجلست أقرأ في كتاب الله في انتظار الصلاة، وما أن أُقيمت الصلاة حتى هبَّت النسمات الباردة الندية نفسها وكأنها ريح من الجنة تبرد بها الأجسام وتنتعش بها النفوس وترتاح لها القلوب المتوهجة لله في خشوع وتبتغي من فضله، وتطمح في عفوه، ونيْل رحمته ورضاه. وعجبت من عجبي.. كيف أعجب أن يحدث هذا في بيت الله الحرام، أول بيت وضع للناس قال فيه رب العالمين {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}(آل عمران 96). وكان مما قرأت بعد صلاة ظهر ذلك اليوم سورة مريم ووقفت ملياً وقفة فاضت فيها عاطفتي وترقرق دمعي عندما مرَّ بي ما يخص علاقة إبراهيم عليه السلام بأبيه في قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}(مريم 41 - 48). استوقفني أدب إبراهيم عليه السلام في التخاطب مع أبيه الكافر، ورغم إصراره على كفره تعامل معه إبراهيم بأدب الابن مع الأب، فلم ينسلخ من بنوته له ولم يجرِّد والده من أبوته، فوجدناه يكرر في كل جملة من خطابه لأبيه (يَا أَبَتِ): {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ..} وشعرت بالرحمة العظيمة والخوف الكبير في قلب إبراهيم على أبيه وحرصه على هدايته، ولم يستطع إبراهيم الابن أن ينسلخ عن إبراهيم النبي والداعية كما يفعل بعض أبناء اليوم في عقوقهم لآبائهم أو انسلاخهم عنهم وتبرئهم منهم بمجرد الاختلاف معهم في أمر من أمور الدين أو الدنيا وهم جميعاً مسلمون. لم يقل إبراهيم لأبيه ستذهب إلى الجحيم إن لم تتبعني وإنما قال له (إني أخاف عليك)، وحتى لم ييأس منه وسمع من أبيه ما سمع من غليظ القول أجابه بلغة الولد المحب لأبيه فقال له: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}. وقد استغفر إبراهيم لأبيه كما وعده في أدعيته وظل يستغفر له حتى صدر أمر الله فيه.. قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ }(التوبة 114). قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله: حدثني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟! فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟! فيقول الله: إني حرَّمت الجنة على الكافرين. ثم يُقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار). (والذيخ هو ذكر الضباع). وأيقنت أن حياة إبراهيم عليه السلام ودعوته والشخصيات التي ارتبطت برسالته بحاجة إلى وقفة طويلة، وما ورد ذكره عنها في القرآن الكريم بحاجة إلى وقفات تأمُّل أطول، وأسأل الله أن يبارك في العمر والوقت ويعينني على العودة لأبينا إبراهيم الخليل عليه السلام لأوفيه حقه الذي هو أهل له لننتفع مما في حياته من دروس وعِبر نحن أحوج ما نكون إليها في العصر الحاضر.