لعلي أحد الذين يأنسون كثيراً بقراءة الأبحاث والدراسات التي تحاول ربط اللهجات العربية بلغتها (الأم) اللغة الفصيحة؛ إن لم نقل الفصحى.. وكان هذا الاهتمام موجوداً لديَّ منذ زمن قديم؛ يناهز الخمسين عاماً.. عندما كنت موجهاً تربوياً في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية (جامعة الإمام محمد بن سعود) فيما بعد. وكان عملي يقتضي مني رحلات إلى عدد من المناطق والمدن التي توجد فيها معاهد علمية. وكنت أسجل بعض الانطباعات عن شيء من اللهجات؛ والعادات الغريبة في تلك الأماكن وقد نشرت الكثير منها في صحيفة (اليمامة) بعنوان (على هامش الجولات التفتيشية) في حينها. وكان من غرائب تلك اللهجات التي لم نسمع بها في نجد أو الحجاز.. ما يجعل مدلولاتها في بعض تلك المناطق أو الأقاليم وخاصة في تهامة والجنوب.. متباينة كل التباين اللهجي عندنا في نجد - على الأقل - بحيث تجبرك على إطلاق ضحكة مجلجلة على تلك المفردات اللهجيَّة الغريبة.. التي لا يمكنك أن تفهمها إلا بشرح وتوضيح من أهلها المتعلمين.. وقد تابعت باهتمام سلسلة مقالات حول اللهجات الجنوبية وخاصة في جبال (فيفا) بمنطقة جازان كتبها الدكتور عبدالله الفيفي في (المجلة الثقافية) التي تصدر عن جريدة (الجزيرة). ولفت نظري مقالتاه في كل من العدد الصادر يوم 15 شعبان والعدد الصادر يوم 7 رمضان الجاري.. وفي كل منهما إشارة وتعقيب على إحدى حلقات الذكريات التي أكتبها في الجزيرة (الأم).. وبخاصة ما جاء في الحلقة (2) من (المشوار الوظيفي) المنشور يوم الثلاثاء 12 صفر 1426ه، الذي كان عن رحلتي إلى (صامطة) في منطقة جازان.. وبلاد المسارحة. وقد ذكرت في ذلك المقال عبارات لهجية من تلك المنطقة ذاتها.. فيها من الغرابة اللفظية ما يجبر الثكلى على الضحك؛ نسبةً إلى اختلاف دلالاتها بين لهجة منطقة جازان ولهجاتنا في الحجاز ونجد. وضربت - مثلاً - مما سمعته وصدَّقه الدكتور عبدالله الفيفي أو كما نقول (صادق عليه).. بمعنى أن نقلي لتلك العبارات كان نقلاً صحيحاً وهي أن رجلاً من أبناء منطقة جازان حضر إلى بيت قاضٍ (نجدي) في وقت مبكر من صباح يوم ما.. لشكوى أو استفتاء. أو غير ذلك.. المهم أنه أخذ ينادي القاضي.. ويطرق الباب، وتأخر خروج القاضي عليه.. فلما خرج خاطبه هذا الرجل قائلاً: (يا امجاضي من أمطل وأنا (...)!! كلمة تعني (أناديك) و(...)! كلمة تعني أدق الباب حتى تقنبرْت على استي في امعرسه). أي جلستُ على اليتي، في الأرض. الدكتور عبدالله الفيفي الذي شرح الكلمات التي ذكرتها في مقالي الآنف الذكر لم يشر إلى الكلمتين اللتين وضعتهما بين قوسين داخلهما أصفار.. وهما تعنيان في اللهجة الجازانية؛ أو الفيفية - نسبة إلى جبال (فيفا) أقذر أنواع الشتيمة.. بالنسبة للغتنا في نجد. وقد اتصلت بأخي الدكتور عبدالله الفيفي.. وأخبرته بمعنى المفردتين اللتين وضعتهما بين الحاجزين.. فاستغربهما جداً.. وذكر أنه لا يعرفهما فيما تعنيانه باللهجة الفيفائية. لا أدري كيف وهو الباحث المتخصص في هذا..؟ ولا شك أن الكلمتين اللتين قوست على موقعهماب(...) و(...) مما يُستحَى من النطق بهما في لهجات المناطق الأخرى. فهل تبقى مثل تلك المفردات اللهجية التي تُنطق عند أهلها.. ويُستحَى من النطق بها في الأقاليم والمناطق الأخرى - هل تبقى محصورة في التداول اللفظي المحلي دون تدوينها ونشرها في الصحف والمؤلفات.. والخطابة.؟ وهل يعتبر حصرها في مواقعها دون خروجها عن نطاق المنطقة إلا نقلاً لسانياً.. دون كتابتها حروفاً تُقرأ - هو سبيلٌ لوَأْدها في مكانها.. واستبدالها بالكلمات العربية الفصيحة..؟! إن كان الأمر كذلك فهي بشرى لمزيد من التلاحم الأقاليمي المناطقي بين أبناء المملكة.. من شرقها إلى غربها.. ومن شمالها إلى جنوبها.. وهو ما يزيد قوة الأواصر.. إلى حد الاندماج الأخوي كالاندماج بين الروح والجسد.. ما أجل أن تتحقق هذه الأمنية الوطنية بصهر اللهجات المحلية في أمها الحنون! وإن كانت الأخرى.. وهي الانشداد إلى المحلية الضيقة بكل محدداتها.. وتكريس مفاهيمها فهذا ما لا يُسر به أحد.. وتبقى اللهجات (العامية) معْولَ هدم.. لا لَبنةَ بناء.. حتى وإن زعم دعاة إحياء العامية أن في ذلك إثراءً للغة الفصحى وإغناءً لمفرداتها.. وهو زور وتزوير. ويا أنصار اللغة العربية الفصحى ارفعوا دائماً أصواتكم وجردوا أقلامكم دفاعاً عن لغة القرآن وحمايةً لها.