"هيئة النقل" تكثف حملاتها الرقابية على الشاحنات الأجنبية المخالفة داخل المملكة    الاحتلال الإسرائيلي يعيد فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه    نائب وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الإثيوبي    التأكيد على ضوابط الاعتكاف وتهيئة المساجد للعشر الأواخر    مباحثات أمريكية - روسية فنية في الرياض بشأن الحرب بأوكرانيا    لبنان يغلق أربعة معابر غير شرعية مع سورية    «الرسوم الجمركية» اختبار للنمو الأميركي    النمور قمة وانتصارات    رابطة أندية كرة القدم تطبق نظام الصعود والهبوط لأول مرة في أمريكا    فريق قسم التشغيل والصيانة بالمستشفى العسكري بالجنوب يفوز بكأس البطولة الرمضانية    خالد بن سعود يستقبل قائد حرس الحدود بتبوك.. ويطلع على تقرير "هدف"    "مانجا" و«صلة» تستقطبان العلامات اليابانية لموسم الرياض    مسجد بني حرام في المدينة.. تطوير وتجديد    نائب أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزة "منافس"    دمت خفاقاً.. يا علمنا السعودي    نائب أمير مكة يرأس اجتماع «مركزية الحج».. ويدشن الدائري الثاني    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وصول التوءم الطفيلي المصري إلى الرياض    ضبط قائد مركبة ممارس التفحيط والهرب في الرياض    رئيس الوزراء الباكستاني يصل إلى جدة    إي اف چي القابضة تسجل إيرادات قياسية بقيمة 24.4 مليار جنيه، مدعومة بالنمو القوي لقطاعات الأعمال الثلاثة    "الأرصاد": أمطار رعدية غزيرة وسيول متوقعة على عدة مناطق بالمملكة    المملكة تدين قصف قوات الاحتلال الإسرائيلية للأراضي السورية    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (1-3)    فيتش: تحسن محدود لمؤشرات البنوك    الغياب الجماعي للطلاب.. رؤية تربوية ونفسية    "التعليم" تعلن القواعد التنظيمية لبرنامج فرص    "الحياة الفطرية": لا صحة لإطلاق ذئاب عربية في شقراء    رأس الاجتماع السنوي لأمراء المناطق.. وزير الداخلية: التوجيهات الكريمة تقضي بحفظ الأمن وتيسير أمور المواطنين والمقيمين والزائرين    وزير الداخلية يرأس الاجتماع السنوي ال32 لأمراء المناطق    الخوف من الكتب    «الملكية الفكرية» : ضبط 30 ألف موقع إلكتروني مخالف    الاتحاد يعبر القادسية الكويتي في نصف نهائي غرب آسيا لكرة السلة    الأخضر يرفع استعداداته لمواجهة الصين في تصفيات كأس العالم    على المملكة أرينا وبصافرة إيطالية.. سيدات الأهلي يواجهن القادسية في نهائي كأس الاتحاد السعودي    المملكة تدين وتستنكر الهجوم الذي استهدف موكب رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية    نائب أمير منطقة جازان يكرّم الفائزين في مسابقة الملك سلمان المحلية لحفظ القرآن الكريم    قطاع ومستشفى بلّسمر يُنفّذ حملة "صم بصحة"    ديوانية غرفة تبوك الرمضانية بوابة لتعزيز الشراكات وترسيخ المسؤولية الاجتماعية    "خطاب الإنتماء" ندوة علمية في تعليم سراة عبيدة ضمن أجاويد3    انطلاق أعمال الجلسة ال144 للجنة الأولمبية الدولية في أولمبيا    نائب أمير تبوك يطلع على التقارير السنوي لتنمية الموارد البشرية هدف    جمعية البن بمنطقة عسير شريك استراتيجي في تعزيز زراعة الأرابيكا    المودة تحتفي باليوم العالمي للخدمة الاجتماعية بتأهيل 6,470 أخصائيًا    16 مصلى لكبار السن وذوي الإعاقة بالمسجد النبوي    الفطر سلاح فعال ضد الإنفلونزا    الذاكرة المستعارة في شارع الأعشى    النقد الأدبي الثقافي بين الثوابت المنهجية والأمانة الفكرية    دعوات ومقاعد خاصة لمصابي الحد الجنوبي في أجاويد 3    مراكز متخصصة لتقييم أضرار مركبات تأجير السيارات    الكشخة النفسية    3 جهات للإشراف على وجبات الإفطار بالمدينة المنورة    هدايا الخير لمرضى ألزهايمر    440 مبتعثا صحيا وكندا الوجهة المفضلة ب33 %    موسم ثالث للتنقيب الأثري بالليث    إقبال على دورات الإنعاش القلبي    تبقى الصحة أولى من الصيام    محافظ الطوال يشارك في الإفطار الرمضاني الجماعي للمحافظة    العلم الذي لا يُنَكّس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهويمل .. آخر الديناصورات المعاصرة!
نشر في الجزيرة يوم 16 - 08 - 2005

كتبَ الدكتور حسن بن فهد الهويمل في جريدة الجزيرة مقالاً جاء في حلقتين، ردّاً على مقال كنتُ قد كتبتُه بعنوان (هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة؟). وقد تعرّضتُ في هذا المقال إلى رؤية (مشهورة) ومعروفة عند كثير من المفكرين المسلمين وغير المسلمين، مؤدّاها أنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة (فقه ولغة). وأنّها لم تكن حضارة شاملة، مقارنة - مثلاً - بشموليّة الحضارة التي نعاصرها اليوم، أو كما تصوِّرها لنا بعض الأقلام العربية في العصر الحاضر. وقد أوردتُ عدّة شواهد على ما أقول، محاولاً أن أقرأ بعض الأسباب التي أدّت إلى عدم شموليّتها. ويبدو أنّ الدكتور الهويمل قد أزعجه هذا المقال، فهو ينتمي إلى جيل عاطفي، ديماغوجي، جيل لا يرى في النقد إلاّ (الهجاء)، ولا في الرأي الآخر إلاً طريقاً واحداً مؤدّاه: إمّا أن تكون معي أو أنت بالضرورة ضدي. أمّا أن تقرأ الظواهر الثقافية قراءة موضوعية، تعتمد على الدليل، ومحاولة استنتاج (الدلالة) منه، وصولاً إلى تلمُّس نتيجة منطقية في النهاية، فهذا ما يبدو أنّه يرفضه جملة وتفصيلاً. فهو حريص على أن يكون (الجميع) ملتزماً بثقافة (القطيع)، وبالتالي فإنّ من حاد عنها، وأطلق لعنان تفكيره البحث في مسلّماتها وبواعثها وتلمُّس ما آلت إليه من نتائج، فسيلقى من الدكتور الهويمل و(أقرانه) سيلاً من (الهجاء)، والتشكيك في النوايا، وكلّ أنواع (التخوين) صراحة أو تلميحاً، أو كما يقول - سامحه الله - عن مقالي: (وهذا النقد السلبي التجزيئي يحقق إعجاز التنبؤ في نقض عرى الإسلام عروة عروة)!. وهذا في رأيي أحد المعوقات الثقافية التي إن انصعنا لها، ورضخنا (لابتزازها)، و(حنينا) رؤوسنا خوفاً من تهمها وتقوّلاتها وعواصف (تكفيرها)، فإنّنا نلغي أول ما نلغي أهم آليات التطوُّر الثقافي والمعرفي ألا وهو (النقد). فمن خلال (النقد) استطاع الغرب أن يبني هذه الحضارة الشامخة اليوم، والتي أنا بالمناسبة في غاية الإعجاب والانبهار بها، وأرى - عن سابق تصوُّر وإصرار - ألاّ حلّ لنا إلاّ بمحاكاة هذه الحضارة، والاستفادة منها، والاقتداء بها، كي نحتل مكاناً تحت الشمس. ويجب أن يكون لنا في (اليابان) و(الصين) والنمور الآسيوية أسوة حسنة. فلو لا المحاكاة والتقليد، واقتفاء أثر الغرب، والتّتلمذ على (منهجيته) العلمية، لما وصلت تلك الأُمم اليوم إلى ما وصلت إليه، وبقينا نحن نتنافس كما نحن الآن على المؤخّرة. هذه حقيقة لا يرفضها، فضلاً عن أن يشك فيها، إلاّ مغالط.
أعود إلى مقال، أو بالأحرى (خطبة)، الدكتور الهويمل لأقول:
أولاً
رغم غضبه العارم عليّ سامحه الله، فأنا لا أشك أنّ الدكتور الهويمل يحملُ نوايا طيبة، وينطلق من رغبة عميقة وصادقة للدفاع عن الحضارة الإسلامية، وهذا بلا شك أمر يُشكر له على أية حال؛ غير أنّ أدواته المعرفية، وطريقة تناوله لمثل هذه المواضيع، ولغته (الخطابية) المتحجّرة، وآلياته النقدية، رغم محاولاته (استعراض) قراءاته المتنوعة، هي - للأسف - أقل وبكثير من طموحاته، وما يندبُ نفسه إليه من مهام. فالعبرة في التحليل الأخير ليس بالاطلاع، و(استعراض) رأي هذا أو ذاك، كما يتوّهم، ولكن بالاستيعاب، والقدرة على الفهم، و(الموضوعية) في التناول، وتقديم رؤية يدعمها البرهان، ويقبلها العقل، قبل أن تقبلها العواطف. ومن الواضح أنّ مثل هذه الشؤون هي بكل تأكيد أكبر من إمكانياته، وأعمق من تصوُّراته. لذلك فهو دائماً ما يورِّط نفسه في قضايا لا يجيد التعامل معها، فيبدو في المحصلة بهذا القدر من التهافت الذي ظهر جليّاً في ردِّه.
ثانياً
شكلياً، وهنا نقطة يجب أن يُدركها بجلاء دكتورنا أمدّ الله في عمره، مؤدّاها أنّ (الكتابة) اليوم فنٌّ يختلفُ عن (الخطابة) في الماضي. فردُّه كان بلغة (خطابية)، علاقتها بالواقع الذي نتعايش معه، كعلاقة طب (الكي) بعلم الطب اليوم. فهو يكتب وكأنّه يخطبُ في (ثلّة) من القوم، يجلسون (القرفصاء) أمامه؛ لذلك جاء حديثه يفتقر إلى الرّصانة والهدوء والمنطق ناهيك عن العلمية؛ رغم أنّ مثل هذه القضايا مدار الحوار تحتاج إلى هدوء وتطارح للفكرة والشواهد والحجج، بالشكل الذي يُثري النقاش، ويضيف إليه، ولا يخرجه من أبعاده الرصينة. وليس أدلُّ على ذلك من هذا (الحشد) الممل من المترادفات، والمحسنّات اللفظية، والشكليّات البلاغية، و(الحشو) الذي لا يفيد القارئ، بقدر ما يُشتت الفكرة.
ثالثاً
موضوعياً، نعم، أنا أعتقد وما أزال، أنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة (فقه ولغة) وليس لها صفة (الشموليّة). بمعنى أنّها لم تكن حضارة شاملة، كما هي الحضارة التي نعايشها اليوم مثلاً. وعندما أصف هذه الحضارة بأنّها حضارة فقه ولغة، فأنا لا أتجنّى، بقدر ما أصف (خصوصية) تميَّزت بها هذه الحضارة. وأتحدّث عن واقع تاريخي لا يمكن البتّة موضوعياً تجاهله. ولا أظن أنّ في هذا الوصف إساءة، فهل من الإساءة أن أقول - مثلاً - إنّ الحضارة اليونانية (حضارة فلسفة)؟. وفي تقديري أنّ علينا أن نتلمَّس الأسباب التي أدّت إلى (عدم شموليّة) هذه الحضارة، واقتصارها على الفقه واللغة، ونعمل على تلافيها في تلمُّسنا للحلول الحضارية المعاصرة اليوم.
ولا أدّعي - بالمناسبة - أنّني أول من أشار إلى هذه الخصوصية، وهذا الواقع التاريخي، فقد سبقني إلى الكتابة عنها كثيرون. ولعلّ أوضح من كتبَ عن هذه الخصوصية، ووصف الحضارة الإسلامية بأنّها (حضارة فقه)، كان الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي). فهو يقول مثلاً: (إنّ ما كُتب في الفقه من مطولات ومختصرات وشروح، وشروح الشروح، لا يكاد يُحصى، وما استنسخ من هذه الكتب بمختلف أنواعها يستحيل استقصاؤه. بل إنّنا نكاد نجزم أنّه إلى عهد قريب، لم يكن يخلو بيت من البيوت المسلمة، من الخليج إلى المحيط، بل وفي أعماق كلٍّ من آسيا وأفريقيا، من كتاب في الفقه). ويقول في موضع آخر من الكتاب: (إنّ الفقه الإسلامي كان ولا يزال أقرب منتجات العقل العربي إلى التعبير عن خصوصيته). وأتمنى أن يعود لهذا الكتاب القيِّم الدكتور الهويمل، ليتأكد أنّ هذه القضية قضية مطروقة بشكل مستفيض، وأنّ عدم اطلاعه عليها لن يغيِّر من الموضوع شيئاً. ويقول الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - معترفاً (بقصور) الثقافة الإسلامية في مجال السياسة ما نصُّه: (ولا تقل أيّها المسلم إنّ هذا الحكم (حكم الشورى) أصلٌ من أصول ديننا، فنحن قد استقيناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من (معاشرة) الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنّه لو لا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأنّ هذا من الإسلام)!.
ولو ترك (دكتورنا) - وفّقه الله - حماسه وعواطفه، وقرأ تراث الحضارة الإسلامية بعين الناقد المتفحِّص، لا بعين (الحميّا) كما يقول العامّة، لأدرك أنّ (مقاله) بجزأيه الأول والثاني، هو مقال استعراضي، انتقائي في استدلالاته، بالشكل الذي جعله بصراحة بمثابة (المرافعة) في قاعات المحاكم العربية، مجرّد جعجعة وليس ثمة طحن. فهو لا يخاطب العقول بقدر ما يُحاكي ثقافة (متخلِّفة) تقوم على العاطفة، وتهمِّش العقل، وليس في قاموسها المعرفي أيّ معنى للموضوعيّة، في زمن أصبحت الموضوعيّة، لا العاطفية، والعنتريات الخطابية، هي لبّ الثقافة وباعث التنوير وأساس التطوُّر.
رابعاً
يبدو أنّ الذي أثار حفيظة دكتورنا الطيِّب في مقالي أنّني تعرَّضت بالنقد للإمام ابن تيمية، وكذلك الشيخ محمد بن عثيمين. لا سيما وهو كما يقول (تيمي) الهوى. وهنا أودُّ أن أوضِّح أنّني لا أرى - إطلاقاً - أنّ لأحدٍ (عصمة) من أن يُنقد ويُناقش وتُفنَّد آراؤه. فكلُّنا راد ومرود عليه إلاّ صاحب هذا القبر، كما قال الإمام مالك - رحمه الله -. وحساسيتنا من النقد، بغضِّ النظر عن موضوعية هذا النقد من عدمها، هي إحدى تشوُّهاتنا الفكرية، كما أنّ غياب (علم المنطق) بشكله الاستقرائي عن بنيتنا التعليمية والثقافية، جعلنا نهمِّش العقل ونستعين في المقابل بالمحسّنات اللغوية إلى هذه الدرجة المفرطة، وأحياناً (المضحكة) كما في ردِّ دكتورنا حفظه الله. فهو - مثلاً - في الحلقة الأولى من المقال يؤكِّد أنّه: (يقبل) أن تنقد السلفية كنحلة (كذا)، ولكنه يعود ويرفض أن تنقد (الحضارة الإسلامية) كما يقول، ولا أدري ما الفرق وأين المنطق في ذلك؟. ولماذا يسبغ دكتورنا الطيِّب على (الحضارة) الإسلامية (قدسيّة) تحصنها من النقد، وفي المقابل ينزع هذه (القدسية) عن نحلة (السلفية) كما يقول؟، أريد منه حفظه الله (تبريراً) مقنعاً للفرق بين هذه وتلك، لا سيما وأنّه على ما يبدو طالبٌ نجيبُ لأُستاذ (التبرير) العربي عباس محمود العقاد كما يتضح من استشهاداته.
خامساً
الإمام ابن تيمية - رحمه الله - عندما (حرّم) الكيمياء، حرّمها بسبب (المضاهاة) وليس بسبب (الغش) كما يدّعي دكتورنا الطيِّب في الجزء الأول من المقال في (تبريره) لموقف ابن تيمية. تبصّر فيما يقول بالنَّص: (وحقيقة الكيمياء إنّما هي تشبيه المخلوق وهو باطل في العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله). أي أنّ (علّة) التحريم هي (المضاهاة) أمّا الغش فهو إحدى النتائج وليس النتيجة الوحيدة. فإذا كان علماء الأصول يقولون: (الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً)، فإنّ (علّة) حكم تحريم الكيمياء عند الإمام ابن تيمية هي (المضاهاة). وحسب قاعدة (المضاهاة) هذه يمكن القول إنّ (السيارة) محرّمة أيضاً، والعلّة تكمن - حسب القاعدة - في (مضاهاتها) للإبل والخيل والحمير والبغال!. ولم يتوقَّف تحريم الكيمياء عند ابن تيمية، وإنّما عند غيره من العلماء المسلمين؛ يقول ابن خلدون - مثلاً - في مقدِّمته عن جابر بن حيان الذي يُذكر دائماً على أنّه رائدٌ من روّاد المسلمين في العلم التجريبي: (ابن حيان كبير السحرة (كذا) في هذه الملة، فتصفّح كتب القوم واستخرج الصناعة وغاص على زبدتها واستخرجها ووضع فيها غيرها من التآليف وأكثر الكلام فيها وفي صناعة السيماء لأنّها من توابعها لأنّ إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنّما يكون بالقوة النفسية (كذا) لا بالصناعة العلمية (كذا) فهو من قبيل السحر). المقدمة، ج2 ص 194. أرأيت أنّ (المنطق) في (صوب) وتبرايرت دكتورنا الطيِّب في (صوب) آخر!.
ويجب ملاحظة أنّني عندما انتقد ابن تيمية، أو ابن خلدون، لا يعني أنّني أنتقدهم على الإطلاق، وإنّما في بعض أقوالهم واستنباطاتهم، وبالذات تلك الأمور التي لا علاقة لها بتخصُّصاتهم، تماماً كما ننتقد أيضاً بعض من يسمّون علماء (شباب الصحوة) هذه الأيام عندما يحشرون أنوفهم في أمور يجهلونها، كعلم السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والقانون الدولي.
سادساً
الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - هو بلا شك عالم فاضل، وله على أهل هذه البلاد فضل كبير، وبالذات عندما وقّع مع زملائه من كبار العلماء فتوى الاستعانة بالقوات الأجنبية لإخرج صدام من الكويت، وحماية وجود المملكة. وهي الفتوى التي فوَّتت - كما يعرف الجميع - على بعض من الانتهازيين والمزايدين باسم الدِّين، ممن يسمّون اليوم علماء (شباب الصحوة)، فرصتهم لهدم هذه البلاد، وتمكين العدو الغازي منها.
ولكن، هذا لا يعني - إطلاقاً - أنّه - رحمه الله - معصوم في كلِّ آرائه. حديثه عن كراهية (التطاول في البنيان) استنتجه - على ما يبدو - من حديثه عليه الصلاة والسلام حول (علامات الساعة). والحديث جاء بصيغة (الإخبار)، وليس بصيغة (التشريع)، وهذا أساس الاعتراض عليه كشاهد. أمّا (تبرير) دكتورنا الطيِّب في ردِّه والقول بأنّ حديث الشيخ العثيمين كان من (باب الفاضل والمفضول)، فهذا ما يثبت استشهادي ولا ينفيه. أي أنّ فنّ العمارة هو في منزلة دنيا (مفضولة)، في تراتبيّة أولويات هذه الحضارة، و(الفاضل) هنا (كراهية) البنيان، وهو ما كنت أريد إثباته. وفي ظنِّي أنّ مثل هذه الأقوال، مثل كراهية (التطاول في البنيان) ينسجم مع التوجُّه العام للفكر النظري للثقافة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، هذا الفكر الذي يدعو إلى (الزهد)، والابتعاد عن (إعمار) الدنيا والانشغال بها، و(تفضيل) الفقر على الغنى .. ورغم أنّ الثقافة الفقهية - كما ترى - كانت على المستوى النظري (تكره) الغنى، وتحبّذ الزهد، وتنهى عن (زخرفة) المعمار، إلاّ أنّ من الموضوعية القول إنّ هذا لم يمنع هذه الحضارة (عمليّاً) من الاستفادة من ثقافة البلاد المفتوحة استفادة إيجابية، فكان لفنِّ العمارة على مستوى (الواقع) وجودٌ حقيقيٌّ وفاعلٌ، حتى شملت حواضر أولئك العلماء والفقهاء الذين كانوا يدعون على مستوى (النظرية) للزهد؛ غير أنّ هذه (الكراهية) - وهنا بيت القصيد - ظلّت قويّة وفاعلة وحاضرة في (البنية التعليمية)؛ فلم يقم - حسب علمي - لفنِّ المعمار وكذلك الفنون والعلوم الأخرى كالطب والكيمياء والرياضيات أيّ أثر يُذكر في البنية التعليمية في حواضر هذه الحضارة، مثلما كان الأمر بالنسبة للفقه واللغة على وجه التحديد. غياب هذه العلوم إلى درجة تقارب العدم عن البنية التعليمية التراثية عند المسلمين، وحضور (الفقه واللغة) هذا الحضور الطاغي يُثبت ما أقول.
سابعاً
في الجزء الثاني من المقال، تحدّث دكتورنا الهويمل طويلاً عن (المنطق) و(الفلسفة)، وحاول - كالعادة - أن يتلمَّس (تبريراً) لموقف ابن تيمية المناهض لعلم المنطق وعلم الفلسفة. ولن أدخل معه في جدل حول سلامة سياقاته (التبريرية)، ومدى ملاءمتها لأصل الموضوع، ولكنّني سوف أسأله سؤالاً واحداً يضع كثيراً من النقاط على الحروف في تقديري، ويختصر القضية محلّ الجدل: طالما الأمر كذلك، لماذا تم (إبعاد) تدريس (علم المنطق) بجميع أنواعه وكذلك علم (الفلسفة) من مدارسنا، أترى أنّ من همّشوا هذا العلم، ورفضوا تدريسه، وتعلُّمه هنا، كانوا (يجنون) على الحضارة الإسلامية، ولم يدركوا (شموليّتها) كما أدركها دكتورنا الطيِّب؟. أم أنّهم لم يفهموا موقف ابن تيمية جيداً مثلما فهمه دكتورنا (الألمعي) من هذين العلمين!؟. هذا، مع احترامي لكلِّ قراءاته التي استعرضها بإسهاب ممل، و(حَشرية) لها مدلولاتها النفسية والمعرفية لدى من يعتنون (بتفكيك) النص، والتي كانت كما هي عادة (فكر التبرير العربي) الذي ينتمي إليه بحميميّة دكتورنا الطيِّب، تتحدّث عن الجانب المملوء من الكأس، وتتحاشى أن تتحدّث عن الجزء الفارغ منه. فأنا - يا سيدي الفاضل - لا أتحدّث عن جدليّات وتفاصيل، ولكن أتحدّث عن (نتائج) وإفرازات؛ ومهما برّرت، فلا يمكن أن تقول، إذا كنت موضوعياً، إنّها حضارة شاملة.
ثامناً
ما هي الحضارة، وهل هي كمصطلح معاصر مُنتج عربي إسلامي، أم هو مصطلح وفد إلينا من خارج منظومتنا اللغوية. دعونا نرى.
الحضارة هي منظومة من الأفكار والوسائل والكشوف والمبتكرات التي ترقى بالإنسان من (البدائية) أو الطبيعة (المتوحشة) إلى مستويات أعلى، بالشكل والمضمون الذي يجعل من الإنسان كائناً متميّزاً على غيره من المخلوقات. فالإنسان والبيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان هما حجرا الأساس لأيّ حضارة إنسانية. يقول د. زكي نجيب محمود في كتابه (هذا العصر وثقافته) ما نصه: (هذه الرغبة الحارقة عند الإنسان، في أن يعمل، وأن يظل عمله يزداد، فتزداد ثماره كثرة في الكم وتجويداً في الكيف: هي شرط التقدم الحضاري عند الفرد وعند الجماعة). ومن هنا يمكن القول إنّ (الحضارة منتج إنساني)، يقوم على العمل والخلق والابتكار والإبداع والتطوُّر. وأيّ حضارة إنسانية هي مدينة لما قبلها من حضارات، وفي الوقت ذاته (مضيفة) لما بعدها من حضارات. وعندما تتعامل مع أيّ حضارة بشكل مستقل، بعيداً عن خصوصيّتها التي تميّزت بها على غيرها من الحضارات، فضلاً عن أن تلغي هذه الخصوصيّة، وتصفها بالشموليّة، فأنت هنا لا تمت للعملية بصلة. كما أنّ (الحضارة) كمصطلح هي مفهوم قادم إلينا من خارج منظومتنا اللغوية والثقافية. لذلك ظلّ هذا المفهوم بعد (ترجمته) قلقاً في الذهنية العربية تماماً كقلق الكثير من المصطلحات الوافدة إلينا من خارج منظومتنا الثقافية التقليدية، والتي بقي جذرها المعرفي، لا اللغوي، غريباً عن ثقافتنا المعرفية، ولعلّ هذا اللَّبس الذي اكتنفَ ردّ الدكتور الهويمل، حتى اعتبرَ - سامحه الله - أنّ القول بأنّ الحضارة الإسلامية هي حضارة غير شاملة (نقضاً لعرى الدِّين عروة عروة) كما جاء في ردِّه، يرجع إلى أنّ هذه المفهوم كان مرتبكاً في تصوُّره، والحكم على الشيء جزءٌ من تصوُّره كما يقولون.
بقي أن أقول إنّ القضية هي أولاً وأخيراً قضية جدليّة، ومن الخطأ، وأبعد ما يكون عن الرّصانة والحصافة والأدب، أن تتناول مثل هذه القضايا بهذا القدر من اللغة المأزومة، وهذا الضيق من الاختلاف، كما هي لغة وسياقات ردِّه هداه الله، فضلاً عن أن يكون الخلاف في وجهات النظر حولها (نقضاً لعرى الإسلام). وأرجو أن يتذكَّر شيخنا وفقه الله أنّ سبب انقراض (الديناصورات) يعود إلى أنّ حجم (رؤوسها) أصغر وبكثير من حجم أجسامها. وأضيف: وربما حجم أحلامها أيضاً!.
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.