الثقافة الإسلامية ثقافة (فقه ولغة) وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية. هذه حقيقة تاريخية لا يمكن لأي قارئ موضوعي لتاريخ الحضارة الإسلامية إلا أن يتنبه إليها، وبالذات عندما يُقارنها بالأسس الثقافية المعرفية للحضارات الأخرى. ورغم أن الحضارة الإسلامية قد عرفت بعض الاكتشافات العلمية في الرياضيات والكيمياء والفيزياء والطب والعمارة، إلا أن هذه الاكتشافات ظلت (هامشية)، فلم يكن لها تأثير يذكر في تكوين قيم معرفية ثقافية من شأنها أن تؤسس لقاعدة حضارية حقيقية متعددة المشارب متنوعة الاتجاهات والوظائف في البنية المعرفية، كما هو الأمر لدى الحضارات الأخرى. فقد كان الخطاب الديني الذي كان هو الموجه الحقيقي لهذه الحضارة، يسيطر عليه علماء الدين وعلماء اللغة سيطرة شبه كاملة. وفي الوقت ذاته (يحاربون) أي توجهات أخرى من شأنها خلق قاعدة معرفية خارج إطار علوم الدين وعلوم اللغة. لذلك اقتصر التعليم التراثي - مثلاً - في أغلب حواضر المسلمين عبر التاريخ وحتى فترة قريبة، على التعليم الديني واللغوي فقط، وبقيت العلوم الأخرى خارج إطار المؤسسة التعليمية التراثية تماماً. وهذا ما تلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين. فالإمام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً - اتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لعلم الكيمياء، وعلم الفلسفة، وعلم المنطق، واعتبر أن علماءه (المسلمين) إما أصحاب (ضلالة) أو أصحاب (جهل)!. يقول في (الفتاوى) عن علم الكيمياء مثلاً: (وحقيقة (الكيمياء) إنما هي تشبيه لمخلوق وهو باطل في العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله). (الفتاوى الجزء 29، ص368). ويقول عن الرازي: (محمد بن زكريا الرازي المتطبب وكان من المصححين للكيمياء عمل ذهباً وباعه للنصارى فلما وصلوا إلى بلادهم استحال فردوه عليه ولا أعلم في الأطباء من كان أبلغ في صناعة الكيمياء منه وأما الفلاسفة الذين هم أحذق في الفلسفة منه مثل يعقوب بن إسحاق الكندي وغيره فإنهم (أبطلوا) الكيمياء وبينوا فسادها وبينوا الحيل الكيماوية). (الفتاوى الجزء 29، ص373). ويقول عن ابن حيان: (وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية (فمجهولة) لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين). (الفتاوى، الجزء 29، صفحة 374). كما أن رأيه في (الفارابي) وعلماء (المنطق) أيضاً لا يختلف كثيراً عن رأيه في الرازي وابن حيان. وقد وقفت الثقافة السلفية موقفاً سلبياً من فن العمارة، رغم ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية عندما خرجت من جزيرة العرب بسبب تأثيرها بالثقافة المعمارية، والفن الزخرفي، للبلدان المفتوحة. ومع ذلك فقد نهت النصوص السلفية عن (التطاول في البنيان) وزخرفتها والاعتناء بها. يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ما نصه: (التطاول في البنيان على نوعين: النوع الأول تطاول نحو السماء بحيث تشيد العمارات الطويلة التي (تناطح السحاب) أو قريب من ذلك. والنوع الثاني: تطاول بجمال البنيان وتشيده والاعتناء به، كل هذا من (التطاول) وهو دليل على اشتغال الناس في أحوال الدنيا دون أحوال الدين، لأن التطاول في هذا يشغل القلب والبدن فيلهو به الإنسان عن مصالح دينه)!.. انتهى.. أقول: ولا أدري ما رأي شيخنا رحمه الله في مبنى (الفيصلية) وكذلك مبنى (المملكة) وهما يشقان عنان السماء في مدينة الرياض، هل هما علامة (حضارة) أم دليل (تخلف)؟!. ولم يكن (الطب) ببعيد عن وضع العلوم والفنون الأخرى. فرغم أن ابن سينا العالم والفيلسوف المسلم الشهير كان من أهم الرواد العالميين الذين أثروا البشرية في هذا المجال، من خلال كتابه الشهير (القانون في الطب)، الذي يعتبر علامة مفصلية مضيئة في تاريخ علم الطب على المستوى الإنساني، إلا أن ابن سينا مر مرور الكرام على هذه الحضارة، ولم يستطع رغم نبوغه في هذا المجال من تأسيس أي بنية (معرفية) من شأنها أن تكون أساساً لبناء تراكمي معرفي من بعده، بحيث يجعل من هذه الحضارة حضارة تحفل بالطب كما هي الحضارات الأخرى. وبقي ابن سينا (يتيماً) في هذه الحضارة رغم أهميته. وبقيت حضارتنا حضارة دين ولغة لا أكثر. وبعد، أعرف أن مثل هذا المقال سيتناوله البعض بحساسية، لأنه يمس بالنقد (مُسلمة) من المسلمات التي تربينا على توارثها دون أي تفكير، وهي (شمولية الحضارة الإسلامية) رغم أن الحقيقة خلاف ذلك، فوصلت هذه المسلمة (المنقوصة) بنا إلى مستوى (الحقيقة) التي لا تقبل الجدل والنقاش، ناهيك عن الرفض. ولابد من القول إن (التنمية) الحقيقية في كافة المجالات، والتي نحن أحوج إليها من العطشان إلى رشفة ماء، لا يُمكن أن تتحقق دون أن نبتعد عن (المكابرة)، ونبدأ بنقد تراثنا المعرفي والحضاري، كي لا نبني تنمية (مستوردة) على أرضية هشة لا تستطيع أن تتحملها، هيئ الأرض قبل البدء.