إنكار حقيقة الحضارة الإسلامية، أو حتى دورها الريادي في البناء الحضاري الإنساني عبر التاريخ الطويل وتصويره هامشياً على صحائف المجد، أو التشكيك بشمولية هذه الحضارة أو مدى عالميتها ليس غريباً في وقت صار الإسلام هدفاً لكتابات طائشة تطعن في قيمه الإنسانية وفضائله العلمية، وتشكك في حضارته حتى تنسحب على إسهاماتها العلمية والفكرية والاجتماعية، لكن الغريب أن يكون ضمن اللاهثين وراء سراب التشكيك في الحضارة الإسلامية (كتاب) نحسب أن حدسهم العقلي يغنيهم عن جهلهم العلمي في بعض المسائل التي لم ينكرها إلا الغلاة والمتعصبون من خصوم الإسلام من باحثين أو مستشرقين سواء كانوا غربيين أو غير غربيين. وهو ما وقع فيه الأستاذ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ في مقاله بعدد الجزيرة رقم (11980) الصادر يوم الأحد 11-6- 1426ه، الذي دار حول تساؤله: هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة؟ ليقرر في خاتمة المقال: إن الحقيقة التي توصل لها تنقض شمولية حضارة الإسلام، زاعماً أن كتابته تلك من قبيل نقد تراثنا المعرفي والحضاري، دون أن يفرق بين نقد يعتمد المنطق العقلي ويستدعي شهادة التاريخ، وبين إنكار هذه الشهادة، وتسطيح الحقائق بآراء شخصية مع جهل واضح بالمصطلحات ضمن سياق المقال، ولأن الرد الموضوعي يقوم على استعراض أقوال الكاتب التي تجلى فكرة مقاله الرئيسة، ومن ثم الاتفاق معه فيها أو نقضها بحقائق واعتبارات تتجاوز إشكالية (الرأي الشخصي) ولا تنزع نحو التعصب الممقوت للانتماء الديني أو القومي، فإني سأعمد هنا إلى بناء ردي على محورين رئيسيين، محور يتناول قضية (شمولية حضارة الإسلام) التي أنكرها محمد آل الشيخ، وكيف أنه خلط بين الحضارة والمدنية، والمحور الآخر.. يكون بإيراد أهم أقوال الكاتب لمناقشتها وتبيان حجم المغالطات التي تجتال فكرة مقاله من أساسها. المحور الأول.. شمولية حضارة الإسلام لا يعتقد الكاتب آل الشيخ بشمولية الحضارة الإسلامية لأنها كما يقول: ورغم أن الحضارة الإسلامية قد عرفت بعض الاكتشافات العلمية.. إلا أن هذه الاكتشافات ظلت (هامشية)، فلم يكن لها تأثير يذكر في تكوين قيم معرفية ثقافية من شأنها أن تؤسس لقاعدة حضارية حقيقية متعددة المشارب متنوعة الاتجاهات والوظائف في البنية المعرفية (انتهى كلامه). هذا القول يمكن نقضه من طريقين، الأول منطق التاريخ الذي يشهد بما أسسه المسلمون والآخر منطق الفكر الذي يحلل مفهوم الحضارة، فأقل الناس حظاً في قراءة ومعرفة التاريخ الإنساني بما فيه الإسلامي، يمكن أن يستدل على شمول الحضارة الإسلامية التي لا تنحصر في عصر محدد أو فترة معينة، إنما تبدأ بالعهد النبوي الشريف مروراً بعصور الخلافة الإسلامية الزاهرة، وحتى تحول مقود الحضارة الإنسانية إلى يد الغرب، حيث تم خلال فترات حضارة الإسلام غرس القيم المعرفية والأسس العلمية، التي صارت سمات هذه الحضارة العريقة، وركائز بنيت عليها حضارة الغرب اليوم، بدأت بموقف الإسلام الإيجابي والفريد من العلم مع نزول أول كلمات الوحي، فكان العلم فريضة شرعية وضرورة واقعية، ونضجت تلك القيم والأسس في الدعوة القرآنية إلى النظر والتفكر في الأنفس والآفاق، وأبدعت عندما جاء المسلمون بمبدأ جديد لم يكن معروفا في حضارات غابرة ، يقول العلامة رينيه ميليه لقد جاء المسلمون بمبدأ في البحث الجديد، مبدأ يتفرع من الدين نفسه هو مبدأ التأمل والبحث، وقد مالوا إلى العلوم وبرعوا فيها، وهم الذين وضعوا أساس علم الكيمياء. وقول رينيه يتوافق مع شهادة الفيلسوف جوستاف لوبون القائل: إن العرب هم الذين علموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين. كما يقول الدكتور فرنتو رونتال: إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جلياً في حقل المعرفة التجريبية، ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم! أما الأستاذ بريفولت فيؤكد أن المسلمين هم واضعو البنية المعرفية التي تقوم على العلم التجريبي بقوله: إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوربا نتيجة لروح جديدة في البحث ولطرق جديدة في الاستقصاء.. طرق التجربة والملاحظة والقياس، ولتطور الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان، هذه الروح وتلك المناهج إنما أدخلها العرب المسلمون إلى العالم الأوربي. هذه الشهادات وغيرها الكثير مما تعج به الكتب والمؤلفات الموثقة ما يثبت أن المسلمين هم الرواد في تعريف العالم أجمع بالمنهج العلمي التجريبي وبقيم البحث والملاحظة والقياس، لذلك وصلوا إلى اكتشافات باهرة ورائدة عبر ذاك المنهج، وتلك القيم، وعليه يقرر المفكر جورج سارتون في كتابه (تاريخ العلم): أن أعظم النتائج العلمية لمدة أربعة قرون كانت صادرة عن العبقرية الإسلامية. فهل يمكن بعد هذا أن يأتي من يزعم أن الحضارة الإسلامية لم يكن لها تأثير يذكر في تكوين قيم معرفية! والغرب يشهد بأن المسلمين هم من وضعوا (المنهج التجريبي)، حتى إن الأستاذ بريفولت في كتابه (بناء الإنسانية) يؤكد هذه الحقيقة وينفي باطل من يجيرها للغرب، يقول: إن روجر بيكون درس العلم العربي دراسة عميقة، وإنه لا ينسب له ولا لسميه الآخر فرنسيس بيكون أي فضل في اكتشاف المنهج التجريبي في أوروبا، فلم يكن روجر بيكون في الحقيقة إلا واحداً من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية. في مقابل ذلك كانت إسهامات العلماء المسلمين من عرب وعجم منسجمة مع القيم المعرفية والأسس العلمية والمنطلقات الدينية ومعبرة عنها في حضارة امتدت قرونا متعاقبة، لا يمكن بأية حال من الأحوال حصر تلك الاسهامات والاكتشافات التي تعتبر في مقياس علوم اليوم أسسا بنيت عليها نظريات وحقائق علمية توصل لها الغرب المتقدم، فما بالك بأسماء أولئك الرواد وهم يبدعون ويبرعون في شتى العلوم. فهل يسع المقام أن نتحدث عن نظريات الحسن بن الهيثم في البصريات، أم عن خرائط الإدريسي في الجغرافيا، أم عن معادلات الطوسي في الرياضيات، أم عن خوارزميات الخوارزمي واضع (اللوغاريتمات)، أم عن البيروني أم عن اكتشافات ابن النفيس لأوعية الدم، أم عن جابر بن حيان في الكيمياء، أم عن الزهراوي في طب العيون أم عن ابن البيطار، أم عن ابن خلدون واضع علم الاجتماع، أم عن الرازي وابن سينا في الطب والقائمة تطول، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلقد قال الكاتب أن ابن سينا رغم نبوغه في مجال الطب لم يستطع أن يؤسس أية بنية (معرفية)، بينما الحقيقة التاريخية تقول: إن كتاب (القانون) ظل مرجعاً أساسياً لكليات الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي، هذا من ناحية منطق التاريخ في تقرير دور الحضارة الإسلامية في بناء الحضارة الإنسانية، أما من ناحية منطق الفكر من كونها حضارة شمولية، فلابد أن نعي أولاً أن الشمول الحضاري يعني (الاستيعاب) الذي لا يتحقق إلا من خلال توفر جانبين رئيسيين هما: الجانب الروحي وما ينضوي تحته من معتقدات إيمانية تتفق مع السنن الكونية ومنظومة قيم اجتماعية تتفق مع الفكرة السوية وأخلاق وفضائل إنسانية تتفق مع إنسان الأرض، والبعد المادي وما يندرج تحته من علوم وصناعة وطب وزراعة ونظم إدارية واقتصادية إلى غير ذلك، ومن ثم المزج بينهما بما يفيد الكائنات الحية، وفي مقدمتها الإنسان. إن مشكلة الكاتب آل الشيخ في عدم تصوره لشمولية الحضارة الإسلامية نابعة من كونه يخلط بين الحضارة التي لا تتحقق إلا بهذين الجانبين، وبين (المدنية) التي تعبر عن المنجز الإنساني في جانبه المادي المحض، ولأن الحضارة الغربية تفوقت في الجانب المادي بشكل كبير رغم أنها قامت أساساً على فضائل حضارات سابقة، كان اعتقاد الكاتب أن ذلك هو ما يعبر عن (الحضارة)، ولك أن تعجب ممن يرى الحضارة الشاملة في الحضارة الغربية وهي وارثة حضارياً، ويحرم الحضارة الإسلامية وهي (الموروثة حضارياً) من هذا الشمول. المحور الثاني.. مغالطات الكاتب الفكرية عطفاً على ما ورد في الجزئية الأخيرة من المحور الأول، في مسألة خلط آل الشيخ بين (الحضارة) و(المدنية)، فإنه في أول مقاله وقع في مغالطة فكرية جلية، يقول فيها: الثقافة الإسلامية (فقه ولغة) وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية (انتهى كلامه). يا ترى كيف يستوي هذا التقرير العجيب من كلام الأستاذ بريفولت الذي يقول عن هذه الثقافة: إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافهم لنظريات مبتكرة غير ساكنة، إن العلم يدين للثقافة العربية بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده. إذاً بريفولت استطاع أن يعي (الخطاب الإسلامي) النابع من الوحي (القرآن والسنة)، الذي وجه هذه الثقافة حتى صارت بوصلة حضارة إسلامية عريقة، بينما لم يستطع كاتب مسلم - من وسط الجزيرة العربية - أن يعي أن المشكلة في (المتلقي) المسلم الذي توقف عن استيعاب هذا الخطاب بكل تجلياته فكان دخول المسلمين لعصور انحطاطهم وغروب شمس حضارتهم، وذلك عندما يزعم هذا الكاتب قائلاً: فقد كان الخطاب الديني الذي كان هو الموجه الحقيقي لهذه الحضارة الذي يسيطر عليه علماء الدين وعلماء اللغة سيطرة شبه كاملة. القول السابق أشبه ب(النسف) الكامل لتاريخ وحضارة أمة تعج بأسماء علماء وعباقرة ومدارس علمية في حواضر الإسلام، بل أين هذه السيطرة المزعومة وأمة الإسلام بدائرتها الواسعة تضم فرقا وحركات وجماعات هي أقرب للباطنية والإلحاد منها إلى العلوم والفلك والطب، ولا يماثل هذا النسف الفكري إلا زعم محمد آل الشيخ أن الحضارة الإسلامية عرفت (بعض) الاكتشافات العلمية، وهي بنظرة (هامشية).. فهل جعل الكاتب بالشيء يعني عدم وجوده؟! والكارثة عندما يستند الكاتب في دعواه عن تلك السيطرة إلى (بعض) العلماء والأئمة ممن ينتسب في رأيه الفكري ومدرسته الفقهية إلى مدرسة الحديث، مختزلاً علماء الإسلام عبر فترات التاريخ الإسلامي بمختلف مذاهبهم وتباين مدارسهم بشخص الإمام بن تيمية -رحمه الله-، مستعرضاً موقفه من علماء المسلمين كالرازي وابن سينا وجابر بن حيان وغيرهم! إن المنطق العقلي في تحليل المسائل لا يمكن أن يقبل بموقف عالم مهما كان ثقله الفكري وعلمه الفقهي كتعبير عن مدرسة فقهية تتعدد فيها الأطياف الفكرية، فما بالك بأمة تتعدد فيها المدارس، ثم يحكم على حضارتها ويشوه خطابها، أم أن (ابن تيمية) غدا مادة صحافية لدى البعض يقحمها في كل شأن؟! ولأن الكاتب لا يجيد التعامل مع المصطلحات وفق مضامينها الفكرية وأبعادها التاريخية، فقد كرر مغالطته في الخلط بين (الحضارة والمدنية)، في فهمه لمصطلح (السلفية)، فسياق المقال يقول: إن الكاتب لا يعرف من السلفية إلا أنها تعبير عن منهج مدرسة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- التي تمتد إلى علماء المملكة اليوم، لذلك جاء برأي قاله الشيخ محمد بن عثيمين- رحمه الله- يتعلق بمسألة (التطاول في البنيان) كمثال لموقف السلفية السلبي لفن العمارة الذي يعد أحد أوجه الحضارة! غير أن الكاتب - والأمانة العلمية تقتضي ذلك - أن يوضح أن (السلفية) ليست صبغة محددة لمدرسة فقهية واحدة، إنما تشمل مدرستي (الرأي) و(النص)، وأن الشيخ ابن عثيمين وأن كان ينتمي لمدرسة (النص)، فإن هناك آراء مخالفة تقول بها السلفية من خلال مدرسة (الرأي)! أخلص إلى أن الكاتب محمد بن عبداللطيف آل الشيخ خاض في بحرٍ لا يجيد العوم فيه، بل قفز إلى عمق هذا البحر وهو يفتقر لأبسط أدوات الإبحار الفكري من شهادات التاريخ الموثقة بأقوال الغربيين أنفسهم، ومن خلال لغة المصطلحات التي أخفق فيها، إضافة إلى عدم تمكنه من فهم الأساس الفلسفي لمفهوم الحضارة المغاير تماماً للمدنية، هذا ما كان والله المستعان. محمد بن عيسى الكنعان