هنا تواجه عمليات التخطيط التربوي نوعان من التحديات، صعوبات مبدئية فكرية وصعوبات فنية. أما التحديات المبدئية فترجع إلى التساؤل عن مدى صحة هذه الفكرة، ونعني ذلك كون التربية توظيفاً مثمراً لرؤوس الأموال بحيث يمكن قياس مردوده قياساً كمياً.. ذلك أن معظم نتائج التربية وآثارها غير مباشرة، وهي بعيدة المدى، بحيث يصعب تقديرها بمقدار، كما يتعذر أن تقاس بمقياس أو أن توازن بميزان، فالآثار الاقتصادية التي يتركها تعليم الكبار مثلاً أو التعليم الإلزامي أو العناية بالبحث العلمي والاختراع آثار عميقة قد تفوق -دون شك- الآثار المباشرة بعض الشيء لانتشار التعليم الفني مثلاً أو بعض أنواع التعليم الجامعي، غير أن هذه الآثار العميقة عصِيَّة على التقدير والقياس، ومن الصعب أن نحسب مردودها الاقتصادي. ومعنى هذا إذن أن للجانب الأهم والأكبر من عمل التربية آثاراً (نتائج) غير مباشرة، تفعل على المدى البعيد الطويل. غير أن آثار التعليم - سواء منها ما كان مباشراً أو غير مباشر - ليست آثاراً اقتصادية خالصة كما ذكرنا، وإنما هي آثار حضارية عامة تترك تغييرات جذرية في بنية المجتمعات وتكوينها، وتؤدي فيما تؤدي إلى نتائج اقتصادية جديدة عن طريق هذا الانقلاب الحضاري العام. ويكفي أن نذكر بين هذه النتائج غير الاقتصادية للتعليم (وأن تكون لها نتائجها الاقتصادية فيما بعد كما ذكرنا) ما يتركه من أثر في الحراك المهني والاجتماعي، وما يحققه للأفراد من إمكانيات الارتقاء الاجتماعي والارتفاع بمستوى الحياة الاجتماعية، وما ييسره هذا الارتقاء بالتالي من ظهور أفذاذ موهوبين ومن تفتح مواهب كان من الممكن أن تظل مكبوتة. ولعل مرد الصعوبة الفنية كلها في هذا المجال إلى صعوبة عامة تتعلق بالظواهر التربوية والظواهر الإنسانية عامة، ونعني بذلك صعوبة عزل عامل التربية وحده لدراسة آثاره ونتائجه، حيث يتداخل هذا العامل مع جملة من العوامل الأخرى التي تختلط آثارها بآثاره ونتائجها بنتائجه، وهذه الصعوبة كما نعلم إحدى عقبات البحث التجريبي في التربية. فقوام أي بحث تجريبي أن نعزل العامل المدروس لنرى أثره (كأن نعزل عامل الحرارة مثلاً لنرى أثره في مردود الطلاب في الصف)، غير أن العوامل في الظاهرة التربوية من التداخل والتشابك بحيث يصعب عزل أحدها وتَبَيُّن آثاره دون أن يدخلها آثار صويحباته.