الأحداث والإشكالات والأزمات المختلفة التي شهدتها الساحة اليمنية، وامتداداتها وتطوراتها السلبية خارج إطار الدائرة الوطنية، وتنامي مخاطرها على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، أكد أن التفاعل والتأثير التبادلي بمظاهره السلبية أو الإيجابية بين شعوب ودول المنطقة حتمية تاريخية وجغرافية وثقافية واجتماعية وعقدية موحدة، وفعل موضوعي يفرض وجوده وصيرورته ضد إرادة السياسة وقراءاتها، ويستمد قوته من حقيقة المصالح الحيوية والحياتية للشعوب التي قُدر لها أن تعيش وتتعايش مع بعضها في كتلة تاريخية وجغرافية واجتماعية على هذا الجزء من العالم.. وفي سياق من الاتصال والتواصل والتكامل عبر المراحل التاريخية المختلفة، باستثناء مرحلة تاريخية ضيقة لا يمكن قياسها بمعايير التاريخ الإنساني لشعوب المنطقة ارتبطت بالهيمنة الاستعمارية الأوروبية على مقدرات وشعوب المنطقة، وحيث فرضت السياسة ومصالحها الضيقة قوانينها وحواجزها وحدودها الجغرافية بين شعوب المنطقة، وخنقت العلاقات الطبيعية بأبعادها الإنسانية المختلفة، وأوجدت نوعاً من العزل القسري للقطر اليمني بكثافته السكانية الكبيرة وإرثه التاريخي الحضاري العريق، لتجعل منه جزيرة من الفقر وسط عدد من الدول الثرية، ومعزولاً عنها بالكثير من الحواجز والمعوقات المصطنعة التي أنتجتها المشاريع السياسية الاستعمارية التفكيكية الموجهة لسلب شعوب هذه المنطقة قدرتها على النهوض والتقدم الحضاري الذي كان وسيظل مرهوناً بوحدة وتكامل وتفعيل عناصره المختلفة "الجغرافية والسكانية، وموارده المادية والبشرية". قوانين ومشاريع السياسة الوضعية التي تم فرضها كحواجز وحقائق بديلة لقوانين التوحد والتكامل التاريخي والجغرافي والاجتماعي واللغوي والديني والمصير المشترك - في لحظة ضعف وانهيار وهزيمة تاريخية عانتها الأمة - لعبت دوراً رئيساً في التحكم بنوع ومستوى وحدود العلاقات الأمنية والاقتصادية والتجارية والمالية والاستثمارية بين دول وشعوب المنطقة حيث حرص كل منها على تكريس واقعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتحديد دوره وعلاقته ومكانته مع إطاره الإقليمي، وتخصيص موارده وإمكاناته وفق مقتضيات السياسة والمصالح التي حتمها واقعها الجديد في اتجاه الاكتفاء الذاتي وتلبية المتطلبات والاحتياجات الحياتية لشعوبها بالاعتماد على الموارد الضخمة التي يحققها اقتصادها الريعي واستثمار الفائض منه في شريان الاقتصاد الحيوي الإنتاجي للدول الغربية، وجزء آخر مسخر على شكل دعم مادي مباشر للدول الفقيرة لمساعدتها على معالجة إشكالات آنية أو الخروج من أزمة طارئة، ومع الأسف أن هذه المعطيات الاستثنائية جرى ترسيخها خلال سنوات طويلة كقيم ثقافية وتربوية وأخلاقية ونهج سياسي ونظم حكم، وتجسدت على أرض الواقع من خلال تمايز اجتماعي واقتصادي وجغرافي وثقافي ورؤية فكرية وعملية لا زالت تفرض فعلها في التعاطي مع الآخر، وتتحكم في مواقفنا وسلوكنا السياسي المعاصر، ونظرتنا إلى بعضنا البعض بنوع من الشك والريبة وعدم الثقة، وقناعات وأحكام خاطئة. ولأن القوانين الحتمية المتحكمة والمنظمة لمسار التطور التاريخي والحضاري للأمم لا يمكن لها التعايش إلى ما لا نهاية مع الظواهر الاستثنائية والأوضاع غير السوية والأحداث الطارئة على حقائق وثوابت الواقع؛ كان لابد لهذه الاستثناءات الشاذة أن تفرز من داخلها شروطاً وعوامل وقوى وأدوات إصلاحها وتغييرها، وهذا ما يتجلى اليوم على الساحة الإقليمية وبشكل غير مسبوق في الاهتمام الرسمي والشعبي الخليجي الذي وصل ذروته بقضايا المنطقة واليمن وإشكالاته المختلفة، وهذا الاهتمام مرده ارتفاع الوعي والمدارك الثقافية والمعرفية الواسعة للمواطنين والدور الذي لعبته الثورة التقنية المعلوماتية وما صاحبها من تطور وانتشار متسارع لوسائل الاتصال والإعلام الحديثة، وظهور جيل نوعي متميز من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والباحثين الخليجيين المهتمين بدراسة وتحليل أوضاع المنطقة وتحدياتها المعاصرة والمستقبلية وإشكالاتها المختلفة ضمن سياق تكاملي وشامل لكل عناصرها وأسبابها ومصادرها ونتائجها الموضوعية والذاتية، على المستويات القطرية والإقليمية والدولية، وبالتالي استشفاف المستقبل بشكل سليم ودقيق وإيجاد الحلول والمعالجات المناسبة من منظور الاحتياجات والمصالح القطرية والإقليمية لشعوب المنطقة وأمنها واستقرارها. وبفعل الدور المتميز الذي لعبه هذا القطاع الواسع من المثقفين الخليجيين أصبح كل ما يعتمل من أحداث وتفاعلات على الساحة اليمنية أحد أهم محاور اهتمامات الرأي العام الخليجي بمختلف توجهاته الرسمية والشعبية، وفرضت وجودها ضمن الأولويات العملية لقيادات هذه البلدان، وجزء من إستراتيجيتها السياسية والأمنية والاقتصادية والدفاعية، الأمر الذي يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن السياسة مهما كانت قوتها وأدواتها ونواياها وأهدافها، ستظل على الدوام وفي المنظور التاريخي والإستراتيجي العام عاجزة عن تغيير أو إلغاء حقائق وثوابت الجغرافيا والتاريخ والثقافة والتداخل والمصالح الاجتماعية للشعوب المتجاورة، بل على العكس فإن السياسة كنهج وسلوك ومواقف وحسابات مصلحية طارئة ومتغيرة باستمرار تكون أكثر فاعلية وأكثر نجاحاً حين تكون قادرة على استيعاب وتجسيد هذه الثوابت والحقائق الأزلية في شكل مصالح متبادلة لشعوب هذه المنطقة. موقف شعبي ناضج: من خلال رصد وتحليل مواقف وردود الأفعال والأداء في الشارع الخليجي بشقيه الرسمي والشعبي وتعاطيه مع أحداث وإشكالات وأزمات الواقع اليمني، والمُعبر عنه عبر وسائل الإعلام المختلفة والإبداعات الثقافية والسياسية والصحفية المنشورة، وفي نشاطات وتفاعلات وإصدارات مؤسسات ومراكز الدراسات والبحوث المختلفة الرسمية وشبه الرسمية، وفي الخطاب السياسي الرسمي، وغيرها من وسائل التعبير عن الرأي العام بما في ذلك القراءات والدراسات التحليلية الأجنبية المختصة بالشأن والموقف الخليجي، من خلال هذا الرصد يمكن قراءة ملامح وحقائق موقف شعبي خليجي نوعي أكثر تطوراً وحرصاً وشفافية ووضوحاً في التعاطي مع قضايا وأزمات الواقع اليمني بمسؤولية، والإسهام بشكل مباشر في معالجتها، وهذا الموقف يتجسد اليوم في صورة وعي وقناعات فكرية وثقافية وفي مواقف وآراء سياسية فردية وجماعية منشورة، ودافعة باتجاه تحويلها من الإطار الفكري النظري إلى سلوك ونهج واقعي يترجم في الواقع من خلال إجراءات عملية تسهم بشكل فاعل في احتواء الحالة اليمنية الاستثنائية ضمن إطارها الخليجي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وتنموياً. المواقف والرؤى الجديدة بالآليات والوسائل والكيفية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات اليمنية الخليجية، تمثل أحد إفرازات تطور الواقع السياسي الثقافي والعلمي والاقتصادي في هذه البلدان والوعي الجمعي لشعوبها بحقيقة التحديات والمخاطر والتهديدات المعاصرة والمستقبلية. هذه المواقف والرؤى موظفة باتجاه انتشال اليمن بكثافته السكانية وفقره وتخلفه التنموي وإشكالاته وأزماته المختلفة، والعمل على إعادة تأهيله واستيعابه ضمن الكتلة التاريخية والجغرافية والأمنية والاقتصادية لدول المنطقة.. فاليمن رغم فقره وخصوصية نظامه السياسي، وتخلفه المادي والتنموي مقارنة مع إطاره الخليجي، وإشكالاته ومعاناته النابعة عن ذلك، كان وسيظل عنصراً مهماً ضمن مكونه الجغرافي والاجتماعي ومن الصعب إخراجه أو فصله منه، كما لا يمكن احتواء إشكالاته ومعاناته داخل إطاره الوطني أو الحيلولة دون امتداد آثارها وتداعياتها وأخطارها السلبية على دول الجوار والأمن الإقليمي والدولي، ولهذا فإن مواقف وقناعات القطاع الواسع من المثقفين والسياسيين والإعلاميين والأكاديميين الخليجيين الداعية بضرورة وحتمية استيعاب تكوين اليمن، لا تنبع من عاطفة أو حسابات آنية ضيقة تصب في صالح اليمن - كما يظن البعض- بقدر ما تجسد حقائق جغرافية وعقدية وتاريخية واجتماعية، وتعبر في الوقت ذاته عن احتياجات ومصالح اقتصادية وأمنية وتنموية إستراتيجية خليجية. إنطلاقاً من كل ذلك يأتي الإجماع الدولي على مساعدة اليمن ومعالجة مشاكله وصعوباته المختلفة ليمثل خياراً عالمياً اشترطته الاحتياجات والضرورات الحتمية المعاصرة والبعيدة المدى لحماية الأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية التي تمثل إحدى البوابات الرئيسة المتحكمة بتوازن المصالح وبالاستقرار الاقتصادي والأمني الدولي. كما أن الرؤية الوطنية الرسمية في معالجة إشكالات الواقع اليمني المختلفة الظاهرة على السطح، تنطلق من معالجة أسبابها ومصادرها الرئيسة المتمثلة في الأزمة الاقتصادية المستفحلة والمزمنة الناتجة عن محدودية موارد البلد ومصادر ثرائه المادي ونموه السكاني الكبير، وبالتالي ضعف وتائر معدلات التنمية فيه، وما يعتمل على الواقع من اختلالات أمنية ما هي إلا نتوءات ومضاعفات وأعراض جانبية للأزمة الاقتصادية المزمنة تاريخياً. هذه الرؤية الرسمية حظيت بتقدير ودعم كبيرين من قبل أشقاء اليمن وحلفائه في التنمية، وتم تبني رؤية إستراتيجية مشتركة لتمويل مشاريع الدولة وجهودها في مكافحة الفقر والبطالة المستشرية المولدين للكثير من الاضطرابات والاحتجاجات والتمردات بأشكالها وأدواتها المختلفة، وهما في الوقت ذاته البيئة المواتية والحاضنة لمختلف أشكال القناعات الفكرية المتطرفة للعناصر والجماعات الإرهابية وعلى وجه الخصوص الإرهاب القاعدي. ما من شك أن القضية التنموية بمفهومها الشامل، ومعالجة أسباب الفقر والبطالة داخل المجتمع اليمني، تمثل عملية تراكمية طويلة المدى، تتعدد وسائلها وأدواتها ومراحلها وتتطلب موارد وتمويلات وجهوداً عملية ضخمة، وقد لا تتجلى مؤشراتها ونتائجها الايجابية على حياة السكان في المدى المنظور، ولهذا جاءت الرؤية الإستراتيجية للمعالجات مقرونة ومتزامنة بإجراءات عملية آنية ذات مردودات سريعة ومباشرة على حياة السكان، وتسهم بشكل فاعل وقوي في التخفيف من حدة البطالة والفقر والاحتقانات الاجتماعية والسياسية الداخلية، إلى جانب إسهاماتها المباشرة في العملية التنموية، وأهم هذه الإجراءات العملية تتمثل في فتح أسواق العمالة في دول الخليج العربي أمام العمال اليمنيين، خاصة وأن القيادة السياسية في كل من اليمن ودول مجلس التعاون قد أكدت منذ وقت مبكر على هذه القضية، باعتبارها أحد أهم الخيارات العملية والإجراءات المباشرة في مساعدة الشعب اليمني، ومكافحة الفقر والبطالة في هذا البلد، وتم بحثها في كافة اللقاءات الثنائية أو المشتركة وفي مختلف الدورات الوزارية ومؤتمرات القمة لدول مجلس التعاون الخليجي، وصولاً إلى اجتماع لندن الدولي واجتماع الرياض الخاصين باليمن، ففيهما تم التأكيد على ضرورة إيجاد حلول سياسية عاجلة لاستيعاب العمالة اليمنية في السوق الخليجية، من خلال اتفاقيات واضحة تحدد تشريعات وآليات ومعايير العمالة وحجمها السنوي ومجالات العمل والمؤهلات المطلوبة.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن تحتل العمالة الأقل تأهيلاً القسط الأكبر من فرص العمل على المدى القريب، يتم خلالها إحداث معدلات وتطورات نوعية في قطاعات الإنتاج والاستثمار الاقتصادي والتنمية البشرية التي من شأنها فتح الكثير من مجالات التشغيل المحلية أمام العمالة اليمنية وتأهيلها التأهيل النوعي لتواكب تطورات واحتياجات واشتراطات أسواق العمالة المجاورة. أهم الروافد الاقتصادية: لقد كانت العمالة اليمنية المغتربة وستظل أحد أهم المرتكزات التي تقوم عليها التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، ومحاربة الفقر والبطالة، وقبل اكتشاف النفط في اليمن وحتى العام 1990م الذي شهد عودة ما يقارب من مليون مغترب كانت تحويلات المغتربين اليمنيين المباشرة تشكل احد أهم الموارد الرئيسة المغذية لخزينة الدولة بالعملة الأجنبية، وشكلت عاملاً حاسماً في الاستقرار المالي والاقتصادي، أما التحويلات غير المباشرة المنقولة على شكل بضائع وسلع ومنتجات خليجية يعاد تسويقها إلى السوق اليمنية فقد ساهمت في إعادة تدوير الجزء الأكبر من دخول المغتربين في أسواق بلدان اغترابهم وخدمة اقتصادها. وبالنظر إلى البيانات الاقتصادية المعاصرة سنجد أن إجمالي التعهدات التي خرج بها مؤتمر لندن للمانحين 2006م الذي يعتبر الأكبر من نوعه في تاريخ اليمن حيث بلغت تعهدات المانحين قبله وخلاله وبعده والمسخرة لعملية التنمية في اليمن حوالي (5,7) مليارات دولار منها (3,5) مليارات دولار تعهدات ومنح وقروض مقدمة من دول مجلس التعاون الخليجي والصناديق والمؤسسات والبنوك التنموية الإقليمية، خلال فترة الخطة الخمسية (2006-2010م) تم تخصيص (3,2) مليارات منها للمشاريع المحددة لها، وإذا ما نجحت الحكومة اليمنية في تحقيق مشروعها بتأمين (20,000) فرصة عمل في السوق الخليجية وبشكل تصاعدي كل عام ليصل عددهم بعد خمس سنوات إلى مئة ألف عامل، وإذا افترضنا أن متوسط المبلغ الذي يمكن أن يحوله كل عامل (200) دولار شهرياً، فإن إجمالي التحويلات المالية لا شك أنها ستزيد عن المبالغ التي تحصل عليها اليمن لدعم التنمية من هذه الدول كل عام، وإذا ما افترضنا أن كل عامل يعيل أسرة مكونة من أربعة إلى خمسة أفراد فإن إجمالي عدد السكان الذي تتحسن أوضاعهم المعيشية ويخرجون من تحت خط الفقر خلال السنوات الخمس يصل إلى حوالي نصف مليون نسمة، وعلى صعيد البطالة يمكن القول إن هذه السوق ستساعد على استيعاب ما يعادل (25-30%) من مخرجات التعليم الجامعي والتعليم الفني العالي والمتوسط البالغ عددهم حوالي (200) ألف خريج سنوياً، الأمر الذي سيساهم في الحد من نمو وانتشار البطالة التي وصلت نسبتها إلى حوالي (40%). هذه الأرقام والإحصائيات وإن بدت مثالية في حجمها إلا أنها لا تمثل كل الطموحات، خاصة إذا ما تم مقارنتها بعدد اليمنيين الذين عادوا عام 1990م من مهاجرهم الذين وصل عددهم حوالي مليون شخص كانت اليد العاملة منهم تمثل 40%، وكما هو معروف فإن الأغلبية من هذه النسبة كانت عمالة عادية وغير مؤهلة بخلاف ما هو قائم اليوم، حيث إن مخرجات المعاهد الفنية والتقنية والمهنية في اليمن أصبحت تشكل العدد الأكبر من اليد العاملة التي تعاني من البطالة إلى جانب مخرجات الجامعات وبالذات تلك التخصصات العلمية المطلوبة لأسواق الخليج. صحيح أن اليد العاملة اليمنية لا زالت متواجدة بشكل ملحوظ في أسواق دول الجوار الغنية.. ولكنها محدودة جداً.. ولم تعد تحويلاتها تمثل أي نسبة تذكر في ميزان المدفوعات.. أو في خطط التنمية. *رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية