خلال احتفال أقامه نادي القصة لتكريم الفائزين في مسابقة القصة القصيرة التي تنظمها سنوياً إحدى الصحف العسكرية المصرية، قال الأديب يوسف السباعي: (لقد برهنت مجلة النصر على أن القوات المسلحة تهتم بالقلم اهتمامها بالصاروخ، وأنها تدرك مغزى أن يلتقي الاثنان معاً) ولا شك أن كلام الأديب الكبير ينطبق على القوات المسلحة في دولة واحدة، أي أن الاهتمام ينصب على الإعداد العتادي والإعداد الفكري، لكن إذا تقابل الجيشان فإن الصاروخ سيواجه الصاروخ والقلم سيواجه القلم، هذه هي المعادلة الطبيعية. بيد أن القوات الأمريكية في حربها الأخيرة على العراق قلبت المعادلة رأساً على عقب، فألغت دور القلم واضطلع الصاروخ بجميع الأدوار. ما أثار هذا الموضوع هو ما نشرته جريدة (الجزيرة) في عددها رقم 11848 بتاريخ 26- 1-1426ه في تقرير عن مآسي (سفراء الحقيقة) في العراق، وقدمت إحصائية عن الصحفيين القتلى وعددهم 73 صحفياً منذ بدء الحرب. وفي مطلع عام 2005م بثت وكالة (أسوشييتدبرس) على لسان لجنة حماية الصحفيين - التي تتخذ من نيويورك مقراً لها - تصريحاً مفاده أن عام 2004م يعد الأشد فتكاً بالصحفيين خلال عشر سنوات، إذ قتل خلال هذا العام 54 صحفياً. ومعلوم أن الصحفيين الذين يغطون الأحداث في العراق ينقسمون إلى فئتين؛ منهم من دخل العراق بمرافقة القوات الأمريكية ويعمل ملتزماً بشروطها وتعليماتها، ومنهم من يعمل مستقلاً لوحده يسعى لتغطية الأحداث من خلال رؤية حرة محايدة. ولكن أياً من هاتين الفئتين لم يسلما من القتل؛ فبعض من كان مع القوات الأمريكية وقتل قيل إنه قتل بنيران صديقة، أما من لم يكن منضوياً تحت اللواء الأمريكي فقتل وعتِّم على مقتله أو برِّر مقتله بأعذار واهية إن كان قد افتضح أمره. بضع قذائف أطلقتها دبابة أمريكية على فندق فلسطين الذي يقطنه الصحفيون في بغداد، ليسقط عدد منهم ما بين قتيل وجريح، وأدوات نقل الحقيقة من كاميرات وميكروفونات وأوراق مضرجة بدمائهم. لو أن هذه الاعتداءات صدرت عن جماعات مسلحة أو أطراف مجهولة لكان الأمر أهون، لكن أن تقع هذه الجرائم من قبل رافعة شعار الحرية والديمقراطية في العالم فهذا هو التناقض بعينه. إن أمريكا تخدع نفسها وتنادي وتتغنى بقيم هي أبعد ما تكون عنها واقعياً. لنستعيد شريط الأحداث بشكل عام - وأقول بشكل عام لأن الذاكرة لن تسعفنا في تذكر التفاصيل - مباشرة سنتذكر.. قصف المدنيين (آخر الإحصائيات 100.000 قتيل من المدنيين)، الاعتقالات العشوائية، فضائح سجن أبي غريب، فظائع الفلوجة. لتقل أمريكا في إعلامها ما تشاء، ولتقلب الحقائق وتعوض الإخفاقات الميدانية بالانتصارات الورقية، لكن أن تحاول إخراس أصوات الحقيقة وتكسر الأقلام النزيهة، بل تهشم رؤوس أصحاب هذه الأقلام، فهذه هي الطامة الكبرى. لم يعد لما يصدر عن القوات الأمريكية من معلومات مصداقية كبيرة، فحاولت من خلال مؤتمراتها الصحفية تأمين الصور والوسائل المساعدة للبرهنة على صدق طرحها، ولكن ما أتت به من شواهد إثبات من صور وغيرها تحتاج هي إلى الأخرى إلى إثبات. إن سلوكها هذا المسلك إنما يدل على إحساسها بالشعور المتنامي لدى العالم في تراجع مصداقيتها. في حرب الخليج الثانية 1990م كانت أمريكا المسيطرة على الإعلام من خلال ما تبثه قناة CNN، وحصل خروج عن النص من بعض الصحفيين فتم طردهم (بيتر أرنت مثلاً)، أما اليوم - في عصر الانفجار الفضائي - فإن كمكمة الأفواه والتعتيم الإعلامي الذي كانت أمريكا تصِمُنا به في وسائل إعلامها لم يعد ممكنا، مع أن أمريكا تطبقه بحذافيره اليوم. نعود إلى معادلة الصاروخ والقلم، لقد اجتهدت أمريكا عقوداً تطوِّر أسلحتها وصواريخها، وفي الوقت نفسه تنادي بقيم حرية التعبير والصحافة، ولم يتوقع أحد أن يأتي اليوم الذي يوجه فيه الصاروخ الأمريكي لتدمير ما كانت تنادي به من قيم، وعلى أرض أتت إليها مدعية أنها ستخرجها من جور الديكتاتورية إلى عدل الحرية!!