في موسم الحج، وخلال أيامه المعدودات تتكثف طاقات وإمكانات وفعاليات مختلفة، وتتوجه الأنظار والاهتمامات، ويصغي التاريخ والإعلام والأفكار إلى المشاعر الإسلامية من كل أقطار الدنيا ملبية نداء الله وتتجلى أطياف الذاكرة والوعي والعبرة والتأملات مشتركة في صياغة تعبير أنسب لهذا الاجتماع الروحاني الإسلامي المهيب على صعيد عرفات وفي رحاب مكة ومنى ومزدلفة يؤدون مناسك الحج في انسياب منظم في الحركة والإيقاع والانضباط. ما أجمله وما أروعه من مشهد عظيم, يعبر عن صيغة أسمى من صيغ الوحدة والتلاحم والترابط والامتثال. ولا بد لأي متأمل واع ان يقتنص من لحظات البهجة والخشوع والتفاعل الإسلامي ما يضفي على الصورة معنى وبعداً تبقى آثاره في الذاكرة والوجدان بقاء لا يمكن أن ينسى. وإذا كانت الرحلة إلى الحج تستدعي الاهتمام المبكر والاستعداد المكثف فإن للرحلة الأولى ألف معنى ومعنى. أحدُ الحجاج المتأملين الحاج الأفغاني سيد إبراهيم حكمت يتحدث عن رحلته الأولى للحج فيقول: للرحلة الأولى إلى الأرض المقدسة جذور راسخة في الذاكرة والنفس، وكيف لا وهي من أهم رحلات الإنسان متوجهاً إلى ربه، حيث فيها تحرر النفس من أدوات الدنيا وتتحلل بإحرامها، من كل العوالق والشوائب الدنيوية الرخيصة. مشاغل الإنسان الدنيوية كلها تنزوي حينما يتجه الإنسان إلى ملابس الآخرة، وهي ملابس الإحرام، تحس وأنت تخلع ثيابك، كأن شيئاً ينخلع معها أيضاً من الداخل، ويحل مكانها شيء آخر. ويقول: كنت في ريعان الشباب في رحلتي الأولى إلى الحج ولكن إذا عدت بذاكرتي إلى تلك اللحظات - لحظات الاستعداد لتلك الرحلة - فإنني أجد الصور تتزاحم وتتسابق في ذاكرتي، كنا نستعد للرحلة قبل شهور طويلة تزيد على الخمسة ونبدأ بتجهيز الزاد الذي تحتاج إليه الرحلة التي تستغرق ستين يوماً تقريباً من أفغانستان إلى أرض الحجاز. وقبل بدء الرحلة، أقام الأهل والجيران والأصدقاء حفلاً كبيراً لوداعي، كثير منهم أثناء وداعي كان يقترب ويحملني أمانة غالية وهي طلب الدعاء والاستغفار لهم أمام بيت الله الحرام. وهذه الأمانة هي أحد الأسباب التي جعلت كل المدعوين يلبون دعوة هذا الاحتفال. والخطوة التالية هي أنني قمت بأداء الحقوق والالتزامات، وذلك حسب طلب أهلي ووالدي وذلك لأن نظرة الناس إلى الذاهب للأرض المقدسة أو القادم منها تختلف عن نظرتهم إلى غيره، حيث إنهم يرونه قد تخلص من كل ما في داخله من أدران الدنيا وأوساخها. يوم في الذاكرة يتابع الحاج سيد إبراهيم: وحين غادرت كابل - وحيداً - بالسيارة إلى كراتشي الباكستانية، كان يوماً مشهوداً ومحفوراً في الذاكرة، وصلت إلى كراتشي وانضممت إلى مجموعة الحج، ثم قمنا بالإحرام من المطار - بعد مداولات بين الحجاج - بدلاً من الإحرام في الطائرة حين عبورها الميقات حيث لا يستطيع كل الركاب الإحرام بوقت واحد، وذلك لسرعة عبور الطائرة الميقات، فقررنا الإحرام من المطار. وعندما صعدنا إلى الطائرة وأقلعت بنا كنت أحس كأنني في مقابل الكعبة المشرفة، ولذلك أتذكر أن جلستي على كرسي الطائرة لم تتغير طوال الرحلة لإحساسي الداخلي بأنني في صحن الكعبة وهذا ما وجدته عندما وصلت الى الصحن الكريم (1). ولا بد لكل حاج أن يحمل ضمن ذكرياته عن رحلة الحج أصداء روحانية مشرقة، مفعمة بالصفاء والحب والطمأنينة، من ذلك ما يثير الخشوع في الصلاة عبر قراءات أئمة الحرمين الشريفين التي تنطلق أصواتهم وتعبر القلوب في أثناء الصلاة فتبث في النفس نسمات من الراحة والابتهاج. وقد تناول الشيخ عبد الغفور عبد الكريم عبيد المدرس في المسجد الحرام تاريخ القراءة في القديم والحديث, فتطرق لأشهر القراء من عهد المصطفى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: (القراء هم أولئك الذين تفرغوا لعلم القراءات وخدمة أهله كذلك، وقد وهبهم الله تعالى أصواتاً جميلة لترتيل وتجويد القرآن الكريم. لا شك أن أول حافظ وقارئ ومعلم للقرآن الكريم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه هذا القرآن من لدن حكيم خبير، وهو أجمل صوت حسن عرفه الحفاظ، والقراء، إنساً وجناً، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } (1){يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}(2) ويليه أصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - وعلى رأسهم عثمان، وعلي، وأبي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري وغيرهم من أهل القلوب الرقيقة المؤمنة. (3) وتناول الأستاذ عبد الغفور عبيد نماذج من الرواد الأفاضل في العصر الحاضر فقال: (إن من نعم الله تبارك وتعالى أنه قد كثر الرواد من القراء في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، فتسمع صوت القرآن في الأحياء والمدارس والجامعات وفي كل ركن من أركان هذه البلاد الطيبة الطاهرة. لنأخذ - على سبيل المثال - أبرز أئمة الحرمين الشريفين الأجلاء، الذين تميزوا وتميزت أصواتهم بخشوع وإخلاص ورقة قلب، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله خياط - رحمه الله - صوت متميز ومدرسة مستقلة في القراءة، والشيخ عبد العزيز بن صالح - رحمه الله - صوت هادئ معروف بأداء خاص به، الشيخ عبد الله الخليفي صوت أبكى المصلين كثيراً، الشيخ صالح بن حميد صوت هادئ رخيم، الشيخ سعود الشريم صوت جميل ليس فيه تكلف، المشايخ الأفاضل عبد المهيمن، عبد الظاهر أبو السمح، عبد الرحمن السديس أصوات جهورية توقظ الغافلين. الشيخ علي الحذيفي، والشيخ إبراهيم الأخضر صوت متقن مثقف بكل ما تعنيه هذه الكلمة لدى القراء، الشيخ عبد العزيز قاري صوت قارئ ابن قارئ، الشيخ محمد أيوب يجذب القراء كثيراً، الشيخ عبد الله بصفر صوت خاشع، الشيخ محمد شرف الحلواني صوت بارز، الشيخ علي جابر أحبه المصلون من قريب وبعيد، الشيخ صديق ميمني صوت عذب وقراءة متمكنة). (4) وأشار الشيخ عبد الغفور عبيد إلى حلقات تعليم القرآن الكريم المتميزة بنماذج التعليم وأنواع القراءات. ولا بد أن نقف هنا عند (مجمع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم) في المدينةالمنورة الذي يقوم بطباعة كتاب الله وتوزيعه على جميع أقطار العالم الإسلامي، وقد يسر وقدم خدمات جليلة للقراء والدارسين للقرآن وعلومه بتسجيل طباعات وقراءات مختلفة لمعظم القراء والقراءات وطباعة معاني القرآن وعلومه بلغات مختلفة، وعندما يعود الحاج وقد تأبط أثمن هدية من المصحف الشريف فقد جمع مع فضيلته أداء المناسك أفضل هدية.. لا بد أن تظل في الذاكرة هاجساً إيمانياً أثيراً مؤثراً في النفس والوجدان. (1) مجلة الحج، ص 44، رمضان 1424ه. (2) سورة الجن الآيتان 1و2. (3) المصدر السابق، ص53 و54.