أقام نادي القصيم الأدبي ببريدة ورشته الأولى لهذا الموسم، وكانت التفكيكية هي محور هذه الورشة العلمية، وكان المتحدثان الرئيسان في هذه الورشة الدكتور حمد بن عبدالعزيز السويلم - أستاذ النقد الأدبي المساعد في جامعة القصيم ورئيس اللجنة الثقافية بالنادي، والدكتور حلام الجيلاني أستاذ اللسانيات المشارك في جامعتي وهرانبالجزائر وجامعة القصيم. وقد استهل الدكتور السويلم الندوة بالتأكيد على أن نظرية (التفكيكية) تعد أحداث المدارس الفلسفية المعاصرة، وقد قفزت هذه النظرية لبؤرة الاهتمام في هذه الأيام بعد أن توفي زعيمها الفيلسوف الفرنسي (جاك دريدا) ثم تحدث الدكتور السويلم عن العوامل التي أرهصت لهذه النظرية والبيئة الاجتماعية والثقافية التي نبتت فيها هذه النظرية، فقال: إن العصر الذي وجدت فيه (التفكيكية) عصر بلغت فيه التقنية ذروتها، وهذه التقنية قد فرضت على عصرها أمرين هما: كثافة الإنتاج، وإرادة التدمير. وهذه الإرادة التي تمثل جوهر التقنية هي عدمية من حيث إنها تتعامل مع الكائن دون أي اعتبار لفكر كينونته، حتى قيل إن التدمير الكلي للأرض هو المآل المحتوم للتقنية. في هذا العصر المشوب بالعدمية وجدت التفكيكية كمدرسة فلسفية. وإذا نظرنا إلى حياة (دريدا) نجد أنه يعيش في حالة تناقض، فهو في حياته وعقيدته وانتماءاته مفكك. فهو فرنسي الجنسية وجزائري الأصل، وكانت فرنسا قد احتلت الجزائر ومارست على أرضها أبشع مظاهر الاغتصاب، وهو يهودي ينتمي إلى أمة احتلت جزءا من بلاد العرب، وهو يهودي ويتظاهر بالكاثوليكية التي تعرضت لتفكيكاته. إن هذه الحياة المضطربة أوجدت عنده العقلية المشتتة، وإذا أردنا أن نتعرف على مزيد من هذا الاضطراب يمكننا أن نعود إلى كتاب الدكتورة أمينة غصن (جاك دريدا في العقل والكتابة والختانة) . إن (نتشيه) الذي وجد في بداية الحداثة وتوفي سنة 1900م يعد الملهم الأول لما بعد الحداثيين، فهو في كتابه (إنساني مفرط في إنسانيته) ينظر للحداثة بوصفها انهيارين وهو لا يبحث عن مخرج من الحداثة باللجوء إلى قوة مخلصة، وإنما عمل على خلخلتها من خلال تجذير النزعات التي تتسم بها، وذلك بإجراء نقد للقيم العليا في الحضارة الغربية مما يؤدي إلى تلاشي مفهوم (الحقيقة) وإعدام أي أساس للاعتقاد بأصول ثانية. وبذلك يكون (نتشيه) أسس لتيار فلسفي يسعى إلى تقويض بداهات العقلانية الغربية وكل القيم الملازمة لها عن طريق رفضه للقول بمنطقية الوجود أو الإيمان بغائبة الكون، فما يؤمن به فلاسفة الميتافيزيقيا ليست إلا وهما يصرون على الإمساك بها من أجل حفظ تماسكهم الوجودي. ثم تحدث الدكتور السويلم عن المنظومة المصطلحية لنظرية التفكيك، وقال: إن الكتابة والكلام كلمتان محوريتان في نظرية التفكيك. وقد نصت المفاهيم التقليدية لعلم اللغة على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وإن الكلمة المنطوقة التي تعرف بأنها صورة صوتية سمعية تتحدد وظيفتها في استحضار المفهوم الذي تمثله هذه الصورة المنطوقة. أما الكلمة المكتوبة في المفهوم التقليدي فهي التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة. فعلم اللغة لا يعطي الكلمة المكتوبة مكانة رئيسة بل إن مكانتها ثانوية بالنسبة للكلمة المنطوقة. ينتقد (دريدا) هذا التصور للغة ويرى أنه يستند على حجج ميتافيزيقية ولاهوتية. إن مفهوم الكلام والكتابة التقليديين مرتكزان حول (اللوغوس) ، وهو مصطلح يستعمله للدلالة على ما هو متجه ميتافيزيقيا أو لاهوتيا، والتمركز حول (اللوغوس) تمركز حول الصوت بحيث يحتل الصوت مكانة تجعله يقارب الواقع المتعالي. إن (دريدا) يريد أن ينقل بؤرة الاهتمام من التمركز حول الصوت إلى التمركز حول الكتابة، وبعد أن حدد (دريدا) مجال اهتمامه وهو الكتابة صاغ ثلاثة مصطلحات تمثل جوهر استراتيجيته في قراءة النصوص المكتوبة وتفكيكها: - المصطلح الأول: (الاختلاف) والاختلاف يشير إلى فعلين: 1- أن يختلف أي أن لا يكون متشابها. 2- أن يرجئ ويؤجل. إن كل علامة تؤدي وظيفتها من خلال الاختلاف والتأجيل، وليس من قبل الدال والمدلول. والاختلاف يقتضي أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في أي علامة ثانية. أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء أي قابليتها على التأجيل. إن العلامة نصفها وافٍ والنصف الآخر غير وافٍ، ولذلك فإنها ينبغي أن تُفهم على أنها (تحت المحو) وهو مصطلح صاغه (دريدا) ليشير إلى عدم كفاية العلامة ونقصها، فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة. فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها، وهو لا يعني بشطب العلامة الدلالة المباشرة وإنما يستعملها لكي توحي بنقص العلامة وعدم كفايتها بل بعدم قطعيتها. أما الأثر فهو ما تتركه الملفوظات في الخطاب المكتوب على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، إنه تشكيل الناتج عن الكتابة، إنه ما يتحرك من أعماق النص ليشعل طاقاته الملتهبة مؤثرا بذلك على ما حوله دون أن تستطيع يدٌ مسَّه. أما المصطلح الأخير من مصطلحات (دريدا) هو (الكتابة الأصلية) وهو مصطلح يستخدمه للدلالة على الفرق بين مفهوم الكتابة الدارج ومفهومه عند التفكيكيين، فهو في المفهوم الدارج دال صرف، أما في النظرية التفكيكية فهو إدراك جديد لوظيفة الأثر، إنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئا ما شيئا غائبا قد ترك بصماته الشبحية التي هي الأثر. ثم تحدث الدكتور حلام الجيلاني عن أبعاد التفكيكية الأساسية قائلا: لا مندوحة في أن كل التيارات الفكرية والفلسفية وما انبثق عنها من مناهج نقدية، إنما جاءت بهدف تحليل معطيات الواقع الإنساني بوصفها أدوات مساعدة من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولما كانت سمعة الغموض والاعتياص هي السمة الملازمة للنص بنوعيه الديني والإبداعي، باتت التيارات الفكرية والمناهج النقدية مفاتيح ضرورية لكل من يود الدخول في مغامرات البحث وإنشاد الحقيقة. ومن الثابت أن النظريات الأدبية الحديثة في الغرب انبثقت عن تيارات فكرية وفلسفية نشأت مع أوائل القرن التاسع عشر بعد أفول نجم الفلسفة اليونانية. وكان من أوضح تلك التيارات: المثالية الألمانية مع كانط وهيجل، والماركسية مع ماركس وبيار زيما، والظاهراتية مع هوسرل وهيدغر، والوجودية مع سارتر، والتحليل النفسي مع فرويد، والبنيوية مع دي سوسير، وما بعد البنيوية مع ليفي سترواس وبارت. ولعل من أهم التيارات الفلسفية التي تحسب على ما بعد الظاهراتية، النظرية التفكيكية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، حيث تعد من بين أكثر التيارات الفكرية المعاصرة شهرة في مجال المعرفة الفلسفية والنقد الأدبي، حتى أن بعض تأويلاتها تجسدت في أكثر سلبيات النظام العالمي الجديد. الأبعاد الأساسية للتفكيكية ولكي نقرب مفهوم هذا التيار الفكري المعقد الذي قام على أنقاض فلسفة الجدل الهيجلية، ويحسن بنا أن نشير إلى الأبعاد الأساسية التي قامت عليها، فيمكننا أن نتصور التفكيكية عبارة عن متاهة تأويلية ترى أن الحقيقة غائبة عن عالمنا، ولا يمكن الوصول إليها إلا بمحو المظاهر التي نعتقد أنها حقائق، ومن ثمة تسعى التفكيكية إلى إعدام النص الهدف من خلال محوه نهائيا؛ لأن ذلك شرط أساس لانبثاق الأمل بالوصول إلى معنى لا يعود على ما محوناه وإلا نكون قد فقدنا الأمل في الوصول إلى إثبات وجود المختلف والتدليل عليه. وهذا المختلف هو ما سماه (جاك دريدا) بفلسفة الآخر وسعى في أغلب مؤلفاته إلى محاولة ربطه بثنائية الغياب والحضور ويبدأ دريدا في التعبير عن توجهه من خلال أبعاد ثلاثة هي: البعد الديني: يرى من خلاله أن (الاختلاف هو المصدر المتعالي الذي لا يخضع لشروط سابقة ولا يمكن الذهاب أبعد منه، لذلك فهو أصل دون مركز يعود إليه) . البعد الفلسفي: ويقوم على أساس ما بعد جدلية هيجل واستراتيجية هيدغر في هدم الميتافيزيقا (ويدخل ضمن الإيديولوجيات الوضعية والأديان السماوية) ، ويرى أن هدم الميتافيزيقا يقوم على أساس (التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل) ، وقد عد هذا أخطر سلاح لزعزعة وتسهيل محوها.. ويشمل هذا البعد جملة من الأفكار المتداخلة التي طرحها دريدا على غرار: علاقة الهوية والاختلاف والبدء والوجود والحضور والغياب والمحو والإبداع، ونقد الميتافيزيقا والجدل الهيجلي. البعد اللساني: استعان جاك دريدا في بلورة معنى الاختلاف على مطيات اللسانيات الحديثة وبخاصة على أعمال فردبينان دي سوسير في كتابة محاضرات في اللسانيات العامة، وبالضبط في موضوع مفهوم اعتباطية العلامة اللغوية، فالعلامة عند سوسير تقوم على أساس اختلافها مع العناصر الأخرى في النظام اللغوي بطريقة اعتباطية بين الدال والمدلول، فالعلامات اللغوية ترتبط ببعضها على أساس الاتحاد والاختلاف، وهذا مبدأ عام ينطبق على علامات كل لسان، غير أن دريدا يؤولها تأويلا آخر - بعد أن حور فهم العبارة السوسيرية إلى أن العلامات كيانات سلبية تستمد قيمتها من نظام الاختلاف - فيرى أن العلامات لا قيمة لها في حد ذاتها وإنما نظام الاختلاف هو الذي يعطيها قيمتها. وهذا النوع من التلفيق أو الفهم الخاطئ في قراءة دريدا لسوسير، حيث إن العلامة إيجابية ولها قيمة في ذاتها لأن الاختلاف سابق على الهوية وبمجرد أن تكتسب العلامة هويتها تصبح إيجابية مثل الكلمة الدالة وإشارة الصم والبكم والضوء الأخضر لدى الجماعة المتكاملة في المجتمع، وتبعا لذلك لا يمكن تصور الاختلاف في العلامة الواحدة إلا عند مقارنتها بعلامة أخرى. وهذا ما دعا السيميائيين إلى القول بأن العلامة دائما تريد أن تقول شيئا ولا تستطيع فيعمل الناقد على استنطاقها. وقد انتهت هذه الجلسة العلمية التي شهدت حضورا طيبا من المثقفين والمهتمين بمداخلات أضاءت جوانب من الموضوع المطروح، حيث داخل الأستاذ إبراهيم البليهي والدكتور محمد الخراز والدكتور أحمد الطامي. أدار جلسة الحوار الدكتور حسن بن فهد الهويمل الذي أثنى على طرح المتحدثين الرئيسيين ودعا الحضور إلى الاهتمام بمثل هذه القضية الحيوية، وقد اتفق الجميع على أن يكون موضوع الجلسة القادمة (ما بعد الحداثة) .