قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...} (183) سورة البقرة. والصوم ضربان كما يقول العلماء، صوم لغوي، وصوم شرعي. فالصوم في اللغة هو الإمساك، وكل ممسك عن شيء فهو صائم. وقد ذم أعرابي قوما، فقال يصومون عن المعروف ويفطرون على الفواحش. وكذلك حقيقة الصيام ترجع إلى اللغة لأن ما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمه الصوم في رمضان وفي غير رمضان، فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى، وصوم السمع ترك الإصغاء إلى الباطل وإلى ما لا يحل سماعه، وصيام العينين ترك النظر، والغض عن محارم الله تعالى وصيام اليدين أن تقبض عما ليس لها بحق ولا تبسط إلا بما هو لله عز وجل رضا، وصيام البطن أن يمنع عن أكل الربا والحرام وعن أكل أموال اليتامى ظلماً، وصيام القدمين ألا تسعى في غير طاعة الله سبحانه، وصيام الفرج القعود عن الفواحش. فهذا صيام الجوارح وهو فرض على كل مسلم أبد الدهر في رمضان وفي غيره. يقول ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (رياض السامعين): الله الله عباد الله صوِّموا جوارحكم عن المنكرات، واستعملوها في الطاعات، تفوزوا بنعيم الأبد في قرار الجنات، والتمتع بالنظر إلى جبار الأرض والسماوات. وشهر الصوم شاهده علينا بأعمال القبائح والذنوبِ فيا رباه عفواً منك وألطف بفضلك للمحير والكئيبِ وهذا الصوم لا تجعله صوماً يضيرنا إلى نار اللهيب أما الصوم الشرعي فهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع بنية من قبل الفجر ولا يخفى على كل لبيب وجه التناسب بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للصيام. إن شهر الصوم (رمضان) شهر عظيم، زكي مبارك كريم، من أطاع فيه الملك الجبار واتبع فيه السنة والآثار، غفر الله له ما قد سلف من الذنوب والأوزار، وخصه برحمته من عذاب النار، ومن عصى فيه الملك الجبار، وخالف القرآن والآثار، وعمل أعمال الفجار، ولم يوقر شهرا عظمه الإله الستار، غضب عليه مقدر الأقدار، ولعنه كل شيء يختلج بالليل والنهار. قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (185) سورة البقرة. وما جعله الله سبحانه وتعالى هدى فلا يكون ضلالة وما جعله بيانا فلا يكون جهالة، وما ضعف فيه الأجر فلا يجعل بطالة. قيل: سمى شهر رمضان بهذا الاسم، لشدة الحر فيه (يقال أرض رمضاء أي شديدة الالتهاب لشدة حرارتها)، وقيل أخذ من حرارة الحجارة لما يأخذ القلوب من حرارة الموعظة والفكرة والاعتبار بأمر الآخرة، فسمي رمضان بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقيل سمى بذلك لأنه شهر يغسل الأبدان غسلا، ويظهر القلوب تطهيرا وهو شهر الإيقان، وشهر القرآن، وشهر الإحساس، وشهر الرضوان، وشهر الغفران وشهر إغاثة اللهفان، وشهر التوسعة على الضيفان وشهر تفتح فيه أبواب الجنان، ويصفد فيه كل شيطان وهو شهر الأمان والضمان. يقول ابن الجوزي رحمه الله: شهر رمضان شهر فيه تزهر القناديل، ويتنزل فيه بالرحمة جبريل ويتلى فيه التنزيل، ويسمح فيه للمسافر والعليل. رمضان للعباد مثل الحرم في أم البلاد، رمضان في الدنيا، مثل الجنان في العقبي: سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود، وملكه خلود. قيل: الشهور الاثنا عشر كمثل أولاد يعقوب عليه السلام، وشهر رمضان بين الشهور كيوسف عليه السلام بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علام الغيوب. فهذا شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور. وقد ورد عن رسول الله عليه السلام قوله: (لو يعلم الناس ما لهم في شهر رمضان لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان)، وقال كذلك:(من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال أيضا: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)، وقال عليه السلام: (إن الجنة لتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان شهر خير وبركة). وفي الحديث القدسي قال عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به). فالله الله والحرمان، والتمادي في العصيان، والرضا في أدياننا بالنقصان، في الشهر الفاضل شهر رمضان. ورد عن ذي النون المصري رحمه الله قوله: تجوع بالنهار، وقم بالأسحار، ترى عجبا من الملك الجبار. وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: لو كان الجوع يباع في السوق لكان المرء محقوقا إذا دخل السوق إن لم يشتر شيئا غيره، والله تعالى قد فضلكم بدين الإسلام ومنَّ عليكم بشهر الصيام. فيا أيها المسلم هذا شهر الصيام، شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، وهو رسول من عند الملك الديان، أكرمه حق الإكرام، واحفظ فيه لسانك من قبيح الكلام، وبطنك من أكل الربا والحرام وأموال الأرامل والأيتام. ويا أيها المسلمون، جددوا واجتهدوا في هذا الشهر بلا إفراط، وخذوا لأنفسكم بالاحتياط. وبعد، فهل آن الأوان لأن يكون شهر الصيام شهرا للإحسان والتكافل والتراحم والتواصل والبر والتعاون، كي ننال الثواب الجزيل والمغفرة من ربنا العزيز المتعال. (*)عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية