أدخل على ابنتي في غرفتها، فأجدها مستغرقة في التفكير، شاردة الذهن... ربما لم تشعر بدخولي، إنها لم تعد تبوح لي بأسرارها، كما كانت من قبل. فما الذي اعتراها؟ لقد دخلت مرحلة المراهقة، وما يصاحبها من تغيرات واضطرابات ترتبط بالتحول الجسدي والنفسي، باتجاه النضج والاكتمال. ربما كان البلوغ، هو أهم حدث في حياة الإنسان، الذي يعني الدخول إلى مرحلة جديدة، تضج بالانفعالات، والتقلبات. ويبدأ النضج الجنسي للفتى، الذي يستقبل عهد الرجولة. وللفتاة التي تستقبل عهد الأمومة، والقدرة على الحمل، والإنجاب. إنها ثورة في الجسد، تقودها الغدد الصماء، التي تشهد نشاطاً مفاجئاً، والذي عادة ما يحدث للفتاة، بين سن الحادية عشرة إلى سن الخامسة عشرة. وربما في المناطق الحارة، يقع قبل ذلك. قرأتُ وسمعت في ال (بي بي سي) خبراً يقول: إن دراسة جديدة كشفت أن واحدة من كل ست فتيات في بريطانيا تبلغ في الثامنة من العُمر، مقارنة مع فتاة واحدة من كل مائة فتاة تبلغ في هذا السن قبل مائة سنة! وكذلك جاء في الدراسة: إن فتى واحداً، من كل أربعة عشر صبياً قد يبلغ في الثامنة من عمره، مقارنة مع واحد من كل مائة وخمسين، في عمر الآباء والأجداد! تقول البروفيسورة (قولدنق) -تعليقاً على هذا التقرير-: أكثر من نصف الفتيات في بريطانيا يصلن إلى سن البلوغ الجنسي بحلول العاشرة من العمر! وقد شملت هذه الدراسة ألفاً وخمسمائة فتاة. فربما تبلغ الفتاة أو الفتى، في مرحلة مبكرة، ما نسميه بمرحلة المدرسة الابتدائية. ونحن نجد في السنة كما في الصحيحين أن عائشة - رضي الله عنها - دخل عليها النبي ژ ، وهي بنت تسع سنين. وكانت عائشة تقول: (بنت تسع سنين امرأة!) وخلال هذه المرحلة تنمو الفتاة بشكل ملحوظ، ويزداد طولها، وتكتمل أنوثتها، صوتها، وصدرها، وحوضها، وخصرها، ووسطها، وشعرها، ويظهر الحيض إيذاناً بالبلوغ. فالحيض هو أهم العلامات المتعلقة بالبلوغ عند الفقهاء والأطباء على حد سواء. إنها مناسبة جديرة، بأن تحتفل بها الفتاة، فها هي قد دخلت سن الرشد، والكمال، والنضج، والمسؤولية، {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. إنها مرحلة جميلة جيدة، مليئة بألوان الإيجابيات، والمباهج، والإشراق. إنها ولادة جديدة، وأنت ترين وتشاهدين، فيما خلق الله سبحانه وتعالى، من خلقه دودة القز، تتحول إلى فراشة جميلة، تسحر العيون بألوانها الزاهية، وتأخذ بالألباب وهي تطير في الحقل، من زهرة إلى زهرة. كثير من الأمهات، والمعلمات، لا يتجرأن على الحديث، عن مثل هذه المسألة. وربما تلقي المعلمة درس الحيض على استحياء، وقد تسمح لبعض الطالبات بالغياب، أو التسلل، أو عدم الحضور - إنني أستحي من هذا الموضوع - هكذا تقول. لما حاضت عائشة - رضي الله عنها - وهي كانت محرمة، متلبسة بنسك بكت، وقالت للنبي ژ : إنها حاضت. قال لها النبي ژ : (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم..). فليس في الأمر ما يدعو إلى الخجل، وقد أثنت عائشة - رضي الله عنها - على نساء الأنصار: (نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصارِ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين). إنها حكمة الباري جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6 - 8). {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4). فالله جل وعلا أحسن كل شيء خلقه، وهذا جزء من خلق الله سبحانه وتعالى، ومن سنته في عباده، وفي إمائه. * قد تُخفي البنتُ الخبرَ عن أهلها، وهذا يصنع لها حرجاً عظيماً، ومشكلة نفسية. * بعضهن لا تتعطر، ولا تغير ملابسها، ولا تزيل شعرها، ولا تغسل شعرها، أثناء الدورة. * ويعتقد بعضهن أن عقد الزواج أثناء الدورة محرم. وهذا كله مما ليس له أصل. * أخريات، قد يصلين أثناء الدورة الشهرية، إما جهلاً، أو خجلاً. ومما أجمع عليه العلماء أن الحائض لا تصلي ولا تصوم، وأنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة. * كثيرات يطفن بالبيت، في حج أو عمرة، ثم يسألن عن الأمر!! ثم تقول إحداهن: لقد خجلتُ من والدي، أو أخي، أو محرمي، أو من جماعتي، فطفتُ، ولم أخبرهم بالخبر. * معلمة تقول: صليت بالبنات شهراً كاملاً، لم يتغيب منهن عن الصلاة، ولا بنت واحدة. يستحيل هذا.. إلا أن تكون هؤلاء البنات قد وصلن إلى المحيض وحضن، فهن طالبات في المرحلة الثانوية، ولكن يغلب عليهن الحياء. * فتاة مصابة بعقدة نفسية، من دورتها الشهرية، حينما أخبرت أمها بهذه الدورة، وأنها قد حاضت، وكانت مبكرة. صرخت أمها في وجهها، وصاحت.. لماذا، الآن؟ أنت ما تزالين صغيرة.. وكأن هذه الدورة باختيار البنت أو بيدها. * طالبة في الصف السادس.. وحدها تبكي بشدة أمام دورة المياه، ومعلمتها تستعجلها في دخول الفصل... تدخل المسكينة، ودموعها تنحدر على خديها، ومريولها المدرسي متسخ.. والمعلمة تتأفف منها، وتشمخ بأنفها...! وتنسى أن مهمتها أن تنهض بهذه البُنيَّة، وأن تعلمها، وأن تربيها..! * فتاة لا تدري، ما هذا الدم، الذي نزل عليها فجأة، دون أن تسمع عنه شيئاً من قبل؟ كانت تظن - وهي تحدثني، وهي من محارمي - جرحاً أصابها، بسبب شجار جرى بينها وبين أختها الكبرى.. لكن الدم استمر، وظلت في دورة المياه ساعات، تصب عليه الماء، وهو لا يزول، واستمرت فترة طويلة من المحيض، لا تكاد تغادر دورة المياه إلا لماماً...!! إن الوعي مهم شرعاً، حتى تعرف الفتاة ما لها وما عليها، وتدري أنها دخلت مرحلة البلوغ، وأن قلم التكليف أصبح يجري عليها، وتعرف أحكام الصلاة والصيام، والحج والطواف والقرآن، وغير ذلك من الأحكام. والراجح فقهاً أنه لا يجوز للحائض أن تقرأ القرآن، من غير أن تمس المصحف، وهذا مذهب الإمام مالك، واختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى، والقرآن يمنحها هدوءاً وسكينة نفسية، ويمحو أثر التوتر والإجهاد عنها. وأيضاً هو مهم طبياً، حتى تستطيع البنت، أن تعرف نوع الغذاء، ونوع العلاج، والتعامل مع هذه الدورة، التي تؤثر في بدنها، وفي نفسيتها، وفي ظروفها. إن اليهود، هم الذين يمتلئ تاريخهم بالكراهية، والمقت للمرأة الحائض، حتى كانوا يقولون: إن المرأة إذا حاضت، لم يجلس الرجل معها، ولم يؤاكلها، ولم يجالسها. فكان الصحابة رضي الله عنهم، حينما اختلطوا باليهود سألوا النبي ژ ، فقال لهم: (اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النِّكاح)، أي: اعملوا مع الزوجة الحائض ألوان المداعبة، والمعاشرة والمجالسة. وكان النبي ژ إذا حاضت المرأة ألقى على فرجها ثوباً، ثم بات معها في فراش واحد. وقد كان ژ يتكئ في حجر عائشة، فيقرأ القرآن وهي حائض، كما في صحيح البخاري. فالتعرف والوعي مهم طبياً، وشرعياً. وقد يصحب هذه التغيرات الجسدية - المتعلقة بمرحلة البلوغ أو المراهقة - تغيرات نفسية، وشخصية منها: - رغبة البنت في إثبات ذاتها، سواء عن طريق الانتماء إلى عالم، ومجتمع، ومجموعة غير مجموعة الأسرة والبيت، أو في التمرد على بعض الأنظمة، أو في الميل إلى الجنس الآخر، والرغبة في إقامة علاقات معهم، بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الفتاة بهذه الأعمال، تريد أن تبعث برسالة إلى الأم، مفادها: - أنني قد أصبحت امرأة. - وأنني ذات كيان مستقل.. - وأنني لم أعد تلك الطفلة، التي كنتم تتعاملون معها من منطلق الطفولية. وهنا مكمن الخطورة. إذ قد يتم التعبير عن هذه الرسالة بطريقة خاطئة، وقد تجد الفتاة نفسها في الموضع الخطأ، الذي يجب أن تتداركه فوراً. الغرارة، والحداثة، وقلة التجربة، والصفحة البيضاء التي تعيشها البنت تجعلها في هذه المرحلة بالذات - مرحلة المراهقة، مرحلة المدرسة المتوسطة غالباً - تصدق كل ما تسمعه من الآخرين. والعواطف المتأججة والحساسة، والميل الفطري للجنس الآخر يمكن أن يقودها إلى الانحراف، إذا لم يكن هناك رعاية جيدة لها. الكثير مما نشاهده على الفتيات، في هذه المرحلة المبكرة ليس بالضرورة تعبيراً عن الانفلات الأخلاقي، وليس مقصوداً لذاته، بقدر ما هو بعض تجليات هذه المرحلة العمرية ومتغيراتها. ولهذا تحتاج الفتاة - في هذا السن - إلى عدة أمور: أولاً: القدوة الحسنة من الوالدين، من المعلمات، من المرشدات، فهو عمر حساس لالتقاط أي حالة سلبية، من التناقض بين الأقوال والأفعال. مثال: مدرسة تحدث الطلاب عن الأغاني، وعدم التعلق بها.. وفي هذه الأثناء، رنَّ جرس الهاتف الجوال، وكان عبارة عن أغنية معروفة في الفصل.. وإذا بالمدرسة تخرج الجهاز من حقيبتها، لترد على هذه المكالمة. ثانياً: الصداقة مع الأم، فلا تفرض الأم على البنت ما تريد، ولكن توجهها وترشدها، وتحاول إقناعها، وتغير طريقة التعامل معها، التي كانت في مرحلة الطفولة، سواء ما يتعلق بدراستها، أو ملابسها، أو برنامجها، أو صداقاتها وعلاقتها، أو حتى التي يمكن أن تقع فيها البنت في هذه المرحلة.لا بد من التعامل معها بيقظة، ووعي، وحساسية، ومحاولة الإقناع، وليس محاولة فرض الرأي. وألا تسمع البنت: أنت ما تزالين صبية.. أنت ما تزالين طفلة.. ثالثاً: الاعتراف بالبنت من خلال: - الثناء على شخصيتها، وعلى إنجازاتها، وعلى الجوانب الطيبة عندها. - احترام خصوصياتها، وشخصيتها. - احترام ما يتعلق بأمورها الخاصة. رابعاً: المراقبة الذكية الحذرة، خصوصاً حينما تلاحظ الأم تغير سلوك البنت، من فتاة ملتزمة إلى فتاة متساهلة، أو تغير نوع الصديقات التي تقيم معهن العلاقات، أو كثرة إدمان البنت على استخدام الهاتف، أو كثرة خلوتها في الغرفة بمفردها. إن العلاقات والصداقات يمكن أن تصنع أشياء كثيرة جداً في غفلة الأسرة. خامساً: معالجة الأخطاء، التي تقع فيها البنت بحكمة ولباقة، وعدم التحقير، أو التقريع المستمر، أو القسوة المفرطة. بعض الفتيات - في هذه السن - قد يقعن في مشكلة معينة. مثلاً: مشكلة التدخين، وهذه ظاهرة عالمية. فقد كشفت أكبر دراسة أجريت على المدخنين في العالم بأن الفتيات اليوم يتعاطين التبغ، بمعدلات أعلى مما كان عليه الأمر سابقاً. جاء ذلك نتيجة دراسة مشتركة، شملت أكثر من مليون مراهق، في أكثر من مائة وخمسين بلداً في العالم. وفي إحصائية سعودية، تبين أن حوالي 20% من المراهقين، وحوالي 4% من المراهقات، يدخنون السجائر. كما أكدت الدراسة أيضاً وجود علاقة بين التدخين، وبين تعاطي المخدرات.إن التدخين، قد لا يكون هدفاً بذاته، لكن الفتى أو الفتاة، حينما تعمله، فهي تريد أن تتمرد على تقاليد الأسرة، أو أن تثبت شخصيتها، أو أن تقلد غيرها. تجربة شخصية دعاء (طالبة في كلية صيدلة)، عمرها ثماني عشْرةَ سنةً. في مرحلة المراهقة، تقول: كانت تراودني دائماً، الرغبة في الانطلاق، وكسر - ما تعتبره - قيوداً مفروضة عليها من أهلها: - تريد أن تخرج من المنزل، دون أن تستأذن من والدها أو من والدتها. - تريد أيضاً إذا خرجت لصديقاتها، أو لسهرة، أو لغير ذلك، أن لا تتقيد بوقت محدد، في الرجوع إلى المنزل. أما الآن فتقول: أدركت تماماً، أن المطالبة بالحرية المطلقة هو ضرب من الجنون.لأن الفتاة - في هذه المرحلة - أو الفتى، لا يدرك ما ينفع وما يضر، وقد لا يحسن التصرف، وقد توجد لديه الرغبة الجانحة الجامحة، في اكتشاف العالم من حوله، دون وصاية أو رقابة من أحد.فهذه الفتاة استطاعت أن تتجاوز مرحلة المراهقة بطريقة سليمة.أما أمها، فتقول: لم يكن في بيتنا أي نوع من القهر والتسلط، كانت الشورى أساس قراراتنا الأسرية، حتى تجديدات المنزل التي تقع فيه، وحتى أنواع المدارس، أو مكان الاصطياف، أو طريقة المصروف المنزلي، أو التعامل مع الجيران والأقارب، فإننا نشرك البنات فيها، ونأخذ برأيهن. إن الشورى، تشعر البنت بمكانتها، وتدربها على التعقل، ورؤية المصالح المستقبلية، وتقديم شيء على شيء، وترك شيء لأن هناك ما هو أولى وأفضل منه. إنها مدرسة مهمة جداً في الحياة: الشورى. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (159) سورة آل عمرانفالتقطي - أيتها الأم - من هذه الآية الكريمة أمرين: الأول: اللين والرفق، وعدم القسوة، أو العنف، أو الغلظة في معاملة البنات، خصوصاً في مرحلة المراهقة. الثاني: الشورى للبنات، سواء فيما يخصهن، حتى في قضية الزواج، أو غيرها، وحتى في الأمور المتعلقة بالأسرة والمنزل بشكل عام.من خلال تجربة شخصية، ومقارنة لعدد من الأسر, التي أعرف الكثير من أفرادها، تبين: - أن بعض الأسر التي تتمتع بهدوء ولطف في معاملة الأولاد والبنات، أن أولادهم وبناتهم، أكثر استقامة والتزاماً، وأبعد عن الانحراف. - بينما الأسر التي تقوم على القسوة والشدة، وعلى الرأي وفرض الإرادة، فإن الأولاد والبنات يجدون مندوحة ومهرباً خفياً، ويمارسون أشياء بعيداً عن عيون الآباء والأمهات.