وصلت القراءة في الحلقات السابقة إلى نهاية الفصل السادس من كتاب الشيخ عبدالعزيز, ومن هنا يبدأ الحديث عن الفصل السابع وما بعده من الكتاب. وعنوان الفصل السابع: الملك عبدالعزيز والإنجليز, وهو قصير نسبياً؛ إذ يتكون من 41 صفحة, وليس في هذا الفصل ما يضيف عمقاً معرفياً إلى ما هو معلوم في العلاقات بين الطرفين, على أنه قد كررت الإشارة فيه إلى رسالة سعود بن عبدالعزيز إلى السلطان العثماني وأُلمح إلى مدلولاتها, وقد سبق الحديث عما يتعلق بهذا الموضوع مما تغني العودة إليه عن إعادته. وأما عنوان الفصل الثامن من كتاب الشيخ عبدالعزيز فعنوانه .الملك عبدالعزيز وفلسطين والعرب , وهو كتابة مختصرة عن مواقف ذلك البطل من قضية فلسطين بشكل رئيسي, وتلك المواقف موضحة ومبسوطة في كتب كثيرة من بينها كتاب الزركلي، رحمه الله, على أنه قد ورد فيه (ص584) اسم نبيه عزمي, ولعل ذلك نقل من مصدر أجنبي غير متخصص لا يفرّق في الكتابة بين كتابة الزاي والظاء, وصحة الاسم نبيه العظمة, وكان من الضباط السوريين الذين أسهموا في تشكيل الوحدات العسكرية في الجيش السعودي. وأتى الفصل التاسع يحمل عنوان .العودة من جهاد أصغر إلى جهاد أكبر . وهو ذكر جميل لنهج الملك عبدالعزيز في الحكم، وإشارة إلى تفتحه بالاستعانة بذوي الخبرة والرأي من بلدان عربية مختلفة، وعرض لطريقة إدارته لأمور البلاد, وليس في هذا الفصل إلا ما هو شيِّق. وأما الفصل العاشر من كتاب الشيخ عبدالعزيز فهو .حقائق عن الأمن في شبه الجزيرة العربية ما قبل الحكم السعودي وفي أيامه . وحرص قادة الدولة السعودية الأولى على تحقيق الأمن ونجاحهم في ذلك من الأمور التي أجمعت عليها المصادر المؤيدة لهم والمحايدة؛ بل والمعادية على حد سواء, ولقد ورث الملك عبدالعزيز عن أولئك القادة حرصهم، ووفق إلى نجاح مثل نجاحهم مع الاختلاف في الظروف والإمكانات. وتحدَّث الشيخ عبدالعزيز في الفصل الحادي عشر عن سيرة الملك عبدالعزيز في العفو والتسامح؛ وهما صفتان من أعظم الصفات القيادية التي كان، رحمه الله، يتحلّى بها. وكان مما أورد الشيخ عبدالعزيز في هذا الفصل قصة الشاعر ابن هويدي، الذي كانت له قصائد ضد الإمام عبدالله بن فيصل بالذات، وعفو الملك عبدالعزيز عنه،, ومما قاله الشيخ عبدالعزيز مايأتي: .تحضرني الآن قصة شاعر معمِّر ْ في تلك الأيام ْ من أهالي المجمعة عرف بتنكره لآل سعود، وقد كان من رجالهم أيام الدولة السعودية الثانية، ثم أعطى ولاءه لحائل لسبب لا نعرفه,, وبينما كان جالساً (في يوم من الأيام) في مجلس أمير بريدة، حسن بن مهنَّا، قال له الأمير في كبرياء: يا محمد بن هويدي ليتك كنت هنا معنا لترى كيف انتهت الأسرة السعودية، وكيف شالتهم الإبل أسرى لحائل, لقد انتهوا كما تمنّيت, فكان رد الشاعر ابن هويدي رداً مفاجئاً للأمير, فقد قال: مسكين أنت ياحسن,, لا تغرّك بريدة، ارتقب في يوم من الأيام سيظهر من مطلع الشمس شاب ماجاء في حسابكم، ونهايتكم ستكون على يديه, سيقول لكم: البلد بلدي، والحق حقي، سيحملكم إلى الرياض ضيوفاً عليه ولا أقول أسرى,,, فجاءت الأمور وفق حسابه ورؤيته، فصدقتْ . أما ان ابن هويدي تنّكر لآل سعود فاتهام يحتاج إلى تدبُّر, كان هذا الشاعر من بلدة المجمعة, وحين كانت هذه البلدة على وفاق مع الإمام عبدالله بن فيصل، منضوية تحت لواء حكمه، كان ذلك الشاعر واحداً من رعيّة ذلك الإمام, ثم حصل خلاف بين البلدة والإمام, لأسباب ليس، هنا، محلّ تفصيلها، فخرجت عن طاعته، وأراد إخضاعها بالقوة، فكان لابد أن يعبّر ابن هويدي ْ وهو أحد أبناء البلدة المذكورة وأحد أعمدة الناطقين الإعلاميين باسمها حينذاك ْ بشعره؛ سلاحاً في المعركة ضد من يريد إخضاع بلدته. وأما القول بأن ابن هويدي .قد أعطى ولاءه لحائل لسبب لا نعرفه فقول هو الآخر يحتاج إلى تدبّر, أكاد أجزم بأن السبب معروف جداً عند الشيخ عبدالعزيز نفسه, ذلك أن محمد بن رشيد، أمير حائل عند محاولة الإمام عبدالله بن فيصل إخضاع المجمعة، قد رمى بثقله مع هذه البلدة، وأتى بقواته المدعمة بقوات حسن بن مهنّا، أمير بريدة، مدافعاً عنها, فكيف لا يتوقع من ابن هويدي أن يعطي ولاءه لمن دافع بنجاح عن المجمعه؟. ولكن هل جاءت الأمور وفق حساب ابن هويدي ورؤيته، كما قال الشيخ عبدالعزيز؟ نعم ولا, حين حدثت قصة ذلك الشاعر مع أمير بريدة، حسن بن مهنّا، كان آل سعود في حائل معززين مكرّمين وإن كانت إقامتهم هناك إجبارية, وكان من بينهم عبدالعزيز, وبعد خمسة عشر عاماً تقريباً من تلك الحادثة بدأ هذا البطل مسيرته التوحيدية منطلقاً من الكويت. هل تنبأ ابن هويدي بأن عبدالعزيز، الذي كان عند حدوث القصة في حائل، سيذهب من حائل إلى الرياض، ثم يستقر به المقام في الكويت، ثم يأتي من هناك إلى الرياض، الخ؟ هذا سؤال تصعب على مثلي الإجابة عنه, على أن هناك حقيقة تاريخية؛ وهي أن الذي قضى على حسن بن مهنّا، أحد بطلي القصة المذكورة؛ سياسياً وعسكرياً، كان محمد بن رشيد، ولم يكن الملك عبدالعزيز، وأن الذي قضى على صالح بن حسن بن مهنّا كان هذا الملك, لقد حمل ابن رشيد حسن ابن مهنّا إلى حائل، وأبقاه سجيناً هناك حتى توفي بسجنه, وحمل الملك عبدالعزيز صالح بن حسن وإخوته إلى الرياض، فبقوا سجناء ْ لا ضيوفاً ْ في الرياض حتى خرجوا من السجن، فتعقَّبهم الأمير محمد بن عبدالرحمن، وظفر بهم، فقتل صالحاً وأخاه مهنّا، وأبقى أخويهما، عبدالرحمن وعبدالعزيز, ثم كان آخر أمير من آل مهنّا محمد بن عبدالله، الذي نقض عهده مع الملك عبدالعزيز وتحالف مع الأمير سلطان بن رشيد، فحاصره الملك حتى استسلم له، وانتهت باستسلامه إمارة آل مهنّا أبا الخيل في بريدة. ولقصة ابن هويدي قصة أخرى تشابهها من بعض الوجوه, كان الشاعر أبو جرّاح السبيعي قد امتدح الأمير عبدالعزيز بن رشيد وهاجم الشيخ مبارك بن صباح، الذي كان آل سعود حلفاء له حينذاك، في قصيدة من عيون الشعر؛ وذلك بمناسبة معركة الصريف، سنة 1318هْ، التي انتصر فيها الأمير على الشيخ انتصاراً عظيماً, ومطلع تلك القصيدة: ياونّتي جميع من سمعها ونّ ومن لا مني عساه يفقد شبابه ونّيت والثنتين عندي تساونّ وازرنت من كثر العزا والصلابة وخاطب ابن صباح فيها بقوله: فوّهت باخذة نجد والعلم عن من؟ تفلج وخصمك ما حضر للطلابة ثم امتدح ابن رشيد بقوله: عبدالعزيز إلى ضرب ما يثمّن تصعد مقاديمه وتبرق عقابه ودارت الأيام، وظفر الملك عبدالعزبز بالنصر، وكان السبيعي قد نسبت إليه أبيات فيها هجوم على الملك, وأصبح لزاماً عليه أن يبحث عن عفوه, فلجأ إلى كبار أهل شقراء، وكان في طليعتهم أميرها عبدالرحمن البواردي، الذي كان أثيراً لدى الملك، وكان شاعراً عظيماً وإن كان مقْلاًّ, ومن أبياته التي تعادل دواوين من شعر الكثيرين قوله: ياهل الديرة اللّي طال مبناها مابلادٍ حماها طول بانيها كان ما تفزع اليمنى ليسراها قل ترى ما وطا هاذيك واطيها وكان هذان البيتان مما ضمّنه الشيخ عبدالله السالم الصْْْْْْْباح في خطبته عند افتتاح أول مجلس أمة في الكويت. وشفع كبار أهل شقراء للسبيعي عند الملك عبدالعزيز، فقبل شفاعتهم، وأحضر أمامه, فقال أحد الجالسين: قم وامدح طويل العمر بشيء من الشعر, فقال آخر: ياالإمام لو ذبحته لما وجدت فيه نقطة دم من الخوف, أين هو من قول الشعر؟ فقال عبدالعزيز: هذا مثل الصلبوخ تظهره من البحر ويقدح, وكان السبعيي كما قال عبدالعزيز, وكان ابن رشيد قد أقسم بألاّ يدخل بلدة حائل قبل أن يقضي على سميّه الملك عبدالعزيز، ولم يحنث بقسمه، فقد قتل قبل أن يعود إلى مسقط رأسه. وقف السبيعي أمام الملك عبدالعزيز والجالسين معه، وقال أبياتاً منها: أبو متعب يحسب الدنيا طويلة باني له ديرة من دون حايل جاه نوٍ خرّب الوديان سيله والركايب قلّدوهن الشلايل الحصان اللّي رهج نجد صهيله شف بعينك لا تطاوع قول قايل أما بعد، فأراني استرسلت في الكلام، لكن إغراء جمال أخبار الرجال النوابغ ليس من السهل عليَّ أن أقاومه, وثقتي بالقارئ الكريم أن يصفح عمّن تملَّك روحه ذلك الإغراء. والفصل الثاني عشر من كتاب الشيخ عبدالعزيز عنوانه .نماذح عن أيام العسر , ولا شك أن الشيخ قد نجح في انتقائه الوثائق التي تساعد على تثبيت ما حاول أن يثبته في ذهن قارئه, وللشيخ مقدرة عظيمة في عرض فكرته عرضاً جذاباً مقنعاً, ولقد حالفه الصواب باستعمال كلمة .نماذج ؛ إذ من الثابت تاريخياً أنه قد مرّت بالبلاد سنوات عصيبة كانت أشدّها تلك السنة المسمّاة سنة الجوع (1327 هْ). ولعدد من شعراء نجد أبيات تعبِّر عما كانوا عليه من الفقر, ومن هؤلاء عبدالله بن دويرج الذي قال: مضى العمر أنا ياشعيل والفقر حطّ وشيل أنا أقواه يوم وباقي الايام يقواني أدير الروابع لين يقبل سمار الليل فالى رحت لي مع سوق أبى أغديه لا قاني لي أنا وله في ساقة مثل رجة الخيل على ما وصلت الباب إلى الفقر يتناني بل إن الفقر دفع الشاعر المبدع عبدالله الصبي إلى أن يعبر عن الحالة التي وصل إليها بقوله: أنا والظواطير نتسابق بطاط الشيص وهذي سواة اللي مقل وحداه الجوع على أن المتأمل للمصادر والروايات المختلفة يجد نماذح تدل على أيام يسر، كما تدل على وجود شخصيات نجدية غنية, ومما يلفت النظر أن كثيراً من الوثائق التي أوردها الشيخ متصلة بإقليم سدير، لكن من أقاليم نجد، مثل القصيم، ما كان أهله في وضع اقتصادي أحسن, وما دام أن من الوثائق الموردة ما هو بعد دخول منطقة الأحساء والقطيف تحت حكم الملك عبدالعزيز فإنه من المعروف أن هذه المنطقة من البلاد السعودية كانت حالتها الاقتصادية أفضل بكثير من نجد على العموم. أقول ما قلت لأني أعود بالذاكرة التاريخية ْ مثلاً ْ إلى ما فرضه الأمير عبدالعزيز بن رشيد على أفراد من أهل القصيم، في طليعتهم الربدي من بريدة ومحمد السليمان الشبيلي من عنيزة ْ وذلك بعد معركة الصريف ْ فأجده مبالغ ضخمة نسبيا, فما فرض على الربدي كان حوالي أربعين ألف ريال، وما فرض على الشبيلي كان خمسة عشر ألف ريال خفضت ْ بناء على وساطة خير ْ إلى عشرة آلاف ريال, ولو لم تكن لدى المفروض عليهما قدرة لتوفير تلك المبالغ لكان شأن آخر. وأعود بالذاكرة التاريخية، أيضاً إلى سنة 1321 هْ، فأجد محمد بن عبدالله البسام ينطلق من عنيزة إلى الشام بأكثر من مئة رعية من الإبل, والرعية في اصطلاح عقيل يترواح عددها بين ثمانين بعيراً ومئة بعير. وبطبيعة الحال لم تكن كل تلك الرعايا ملكاً له، بل كان بعضها بضائع لآخرين, وقد حدثني الراوية متعب الحمود السبهان، رحمه الله ، أن الأمير عبدالعزيز بن رشيد ْ عند اقتراب ابن بسام من حائل ْ خرج مسيرة يوم وليلة ليقيم مأدبة غداء تكريماً له. واستقام محمد البسام في الشام من بعد تلك السنة، وأصبح المعتمد لدى الدولة العثمانية هناك في تأمين حاجتها من الإبل، ومُنح نياشين منها, وكان من أعماله في الغربة أنه كان أول من أسس شركة نقل بالسيارات بين الموصل وأنقرة, ولما استولى الفرنسيون على دمشق حاول الهروب بأمواله، فصودرت تلك الأموال. وأعود بالذاكرة التاريخية، أيضاً، فأجد عساف الحسين العساف من الرس يأتي من الحجاز حيث كان في طليعة قادة جيش الحسين بن علي ومعه ْ كما قيل ْ أكثر من أربعة عشر ألف جنيه، وأن عبدالله بن سعد بن مكرش من عنيزة كان لديه حين عودته من عمله في جيش الحسين في الحجاز اثنا عشر ألف جنيه, لكن هل هذه الحالات الفردية تعطي صورة حقيقية للأوضاع الاقتصادية في نجد بصفة عامة؟ الجواب بالنفي بطبيعة الحال, لكن كما كانت هناك سنوات عسر، وكان هناك فقراء معدمون، كانت هناك سنوات يسر وكان هناك أغنياء والحكم الأقرب إلى الصواب يتأتي عن طريق دراسة متعمقة. وجاء الفصل الثالث عشر مختتماً فصول كتاب الشيخ عبدالعزيز، وحاملاً عنوان .الملك عبدالعزيز في فكر معاصريه , وهو يشتمل على مقتطفات مما قاله عن الملك نفر من الكتاب والشعراء المرموقين في عصره، إضافة إلى باقة من أقواله، رحمه الله, ثم جاءت .كلمة ختام من الشيخ عبدالعزيز لتكون مسك الختام للكتاب كله قبل إيراد قائمة بالمصادر التي رجع إليها. أما الكلمة الختامية لكاتب هذه السطور فهي تقديم شكره للشيخ الجليل، عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، على ما أتحف به الجيل والباحثين في تاريخ هذا الوطن من عمل جيد مفيد أن يرى مزيداً من مثل هذا العمل النافع، وهي ْ بالإضافة إلى هذا وذاك ْ تقديم اعتذاره للقارئ الكريم على الإطالة، وأمله أن يلقاه في الأسبوع القادم مع كتاب آخر. والله ولي التوفيق.