* المملكة هي الحصن الأول والأخير للأمة *الأحداث أقوى طغياناً من القصيدة *أحاول ترتيب أحاسيسي وأعيش حالة مخاض شعري * تحولات كثيرة ثقافية واجتماعية ضيقت من مساحة تلقي القصيدة * القصيدة التي تعبر عن موقفي ورؤيتي لم أكتبها بعد * مجتمعنا بدأ يتحفز ويدرك وسوف ينتصر في النهاية الشعر رفيقه أينما حل، تكتبه القصيدة يومياً، لا لكي تختصر مواجيده في نقطة حبر، أو فاصلة، أو تفعيلة حالمة بل لتدل على حياة تجوس خلال الشغاف وعلى رؤى تطل من عتمات المطلق عبر خياله الوضيء. إنه الشاعر الذي يتنفس الحياة صوراً وبياناً وأبجدية. الدكتور إبراهيم العواجي يضرب بكلماته في أطناب الجمال، لذا فإنه يفتح «مداده» ليسجل «نقطة في تضاريس الوطن» سعياً لاكتشاف «فجر أنت لا تغب» في هذا الحوار يسترسل د. العواجي لاكتشاف تفاصيل ذاته الشاعرة، ويحاور بعض القضايا والأحداث الراهنة يشملها بتفاؤله المطلق، ويصوب كلماته بشكل محدد لسبر الظواهر ومعالجة أسئلتها الساخنة. وهذا نص الحوار: * مع الأحداث وتحولاتها كيف يتحول الشعر لدين.. كيف ينتقل - مضمونياً - من مستوى قصيدة الغزل «مثلاً» ليعانق قضايا الوطن؟ - أعتقد أن الشاعر الواعي بما يدور حوله من أحداث كبيرة وصغيرة، والتحولات التي يمر بها مجتمعنا أو قضايا أمتنا بوجه عام. الشاعر الذي يملك الإحساس ويلتقط كافة الاشارات التي تحيط به، أعتقد أنه يجد صعوبة في كتابة قصيدة الغزل الآن، وهو لو كتبها، فأنا على يقين أنه لن ينشرها، لماذا؟ لأنه في مثل هذه الظروف، وإن كانت حتى هناك ظروف أحلك، لأي مجتمع. ولا يعني هذا أنه لا يوجد من يقرأ الغزل أو يبحث عن قصيدة الغزل لأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الشرائح فهناك فئات كثيرة في المجتمع مهما كان يدور من أحداث في المجتمع فإن اهتماماتها تبقى محصورة في اطار ذاتي، العشق الذاتي أو الحالة الذاتية وهذه هي طبيعة الإنسان والمجتمعات. لو كانت المجتمعات كلها على نمط فكري واحد ومقبولة في اطار فكري واحد لصارت الحياة مملة ومزعجة. فأنا باعتقادي أن فئة من الشعراء المرتبطين بالوطن ويتفاعلون معه، لا يعني أنهم لا يكتبون قصائد غزل، لكن أنا شخصياً أجد أن الواقع في الوقت الحاضر ليس فقط في المملكة ولكن في وطننا العربي بشكل عام نحن في مرحلة انكسار وإذلال واهانة تاريخية، واسقاط كافة مآسي الدول الكبرى الذاتية على سلوكنا وعقيدتنا وأخلاقياتنا، ومن ثم حتى على أرضنا هذه كلها أشياء تكون حاجزاً نفسياً دون الاسترسال في استخدام النفس الغزلي في القصائد، لأن الشاعر المتفاعل مع من حوله، مع بيئته وظروفه وواقعه، هذا شاعر مؤكد أن الأحداث تملي عليه نفساً نفسياً، شعره عبارة عن افراز ما في داخله، فإذا كان الإنسان متصلاً، فكافة الأنساق التي حوله كلها ستؤثر على مخرجاته الشعرية. * هل الحدث يفجر الشعرية لديك، أم أن التأمل والتخيل يصنعان هذه الشعرية بعيداً عن تأثير الحدث؟ - لي مقولة خاصة ذكرتها في إحدى الحوارات حين سئلت عما يحدث في فلسطين العزيزة من تقتيل وتدمير وفُجْر عالمي ودولي، ولماذا لم أكتب في هذه الأحداث، كنت أقول: إن هذه الأحداث أقوى طغياناً من القصيدة، وأن حالة الذهول الداخلي، ومحاولة ترتيب أحاسيس الإنسان بشكل يجعلها تنتج قصيدة، وهذا قد يحدث مع شعراء كثيرين، أنا شخصياً ليس لدي ذلك. وأعترف لك: لقد كتبت قصائد وجدانية لكن إلى الآن أعيش حالة مخاض شعري إزاء هذه الأحداث، فهناك من يقول إنه لا مكان للشعر الآن. * كيف تنظر إلى مستقبل القصيدة في ظل هذه الأجواء المتغيرة؟ - يرى البعض أن المجال للفكر لا للشعر، والمجال للفكرة وتبدلت المواجهة، بالكلمة حتى أنها أصبحت بالفعل، وهذا رأي صحيح من حيث إن الوقت هو وقت مواجهة. عندما تمس التحديات كيان الإنسان الذاتي، وأمنه واستقراره، ومستقبله ومستقبل وطنه، ويرى أننا مستهدفون من كل الجهات، ليست المملكة فقط. فالمملكة آخر مظاهر الاستهداف، فالاستهداف منذ زمن طويل ولكنه بدأ يصل الآن إلى مرحلة متأججة من الصدام. ولذلك أنا في تقديري فيمن يرى أن هذا ليس زمن القصيدة، وأنا لا أرى ذلك. أرى أن القصيدة ليست بديلاً لتوظيف كافة وسائل المواجهة مع العدو، أياً كان العدو، قد يكون عدواً داخلياً أو خارجيا، وقد يأخذ العدو شكلاً ما من الأشكال المختلفة للمواجهة، فبالتالي أعتقد أن هناك من يبحث عن القصيدة الفاعلة، فالقصيدة لها تأثير كبير جداً في خلق روح الحماس، في التفاعل في الانفعال ولكن لا تتأتى دائماً هذه الأمور من خلال الكلمة أو المقالة، أو أدوات التعبير الأخرى. إذن القصيدة تظل موجودة، ربما السؤال الذي تطرحه أنت أن مساحة القراءة للقصيدة ربما تكون ضيقة، وهذا صحيح ليس بسبب الأحداث ولكن بسبب التحولات الأخرى التي تطرأ على الشروط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وحالة الانبهار التي يعيش فيها الناس عبر هذه التحولات. * هل هذه التحولات أثرت في توجهك الشعري، أوفي مستقبل القصيدة الخاص والذاتي لديك؟ - أنا شخصياً لم أتأثر. فقط أنا لم أكتب بعد القصيدة المباشرة، لم أستطع، وأنا أكتب يومياً كل صباح مقطوعات شعرية قد تكون وفقاً للموقف الذي أعيشه، لكنها ليست قصائد. أما القصيدة التي تعبر عن موقفي ورؤيتي لم أكتبها بعد، ولكن أتمنى أن أنعتق من حالة الكابوس النفسي الذي يلقي بثقله على قلمي لأكتب هذه القصيدة، وسوف أكتبها، لكن لا أغبط الشعراء الآخرين الذين انطلقوا وكتبوا هذه النوعية من القصيدة. * برغم تجربتك الشعرية المديدة لم تقترب التجربة النقدية من قصيدتك في شكل كتاب أو دراسة موسعة بم تفسر ذلك؟ - لدي دراسة أعدها أحد النقاد منذ زمن، وأعتقد أنها كتبت في مرحلة سابقة ولو أعدتها له الآن ربما يعيد النظر فيها حيث طرأت لدي أعمال شعرية جديدة، لكن شعري لم يتعرض للدراسة النقدية. * وهل هذا بسبب تقاعس النقاد عن التوجه لدراسة شعرك؟ - دعني لا أسميه هكذا، بل إن ذلك يرجع لعوامل تتعلق بوظيفتي سابقاً، فقد كنت في مركز المسؤولية، وكثير من النقاد ربما امتنع عن التصدي لأعمالي خشية ألا يفسر هذا خاصة إذا اتجاه إلى ابراز الايجابيات وأغفل السلبيات، بأن ذلك نوع من النفاق أوالمجاملة وربما أن بعض النقاد لم يقرأ شعري، وهذه نقطة مهمة، لو اخترت عشرة من النقاد البارزين ووجهت لهم سؤالاً: هل قرأت دواوين إبراهيم العواجي؟ قد تفاجأ بأن الجواب يكون: لا. قد أكون قرأت قصيدة أو اثنتين أو بعض القصائد في ديوان ما. من المسؤول عن ذلك؟ ولماذا؟ رغم أن دواويني قد تكون وصلتهم عبر دار النشر؟ هذا هو السؤال. في مرة سألني أحدهم أن هناك شاعراً حداثياً كتب عني كتابة كلها سلبية. وهذا من حقه، فربما كانت رؤاه منصبة على الجوانب التي لا تعجبه في شعري ومع ذلك قرأتها. وذكر لي أحد الإخوان مستنكراً: أرأيت ما كتبه فلان؟ قلت له: يا أخي أنا أتمنى أن يكتب عن شعري بأي شكل من الأشكال أنا أريد لشعري أن يقيّم، لأنني لم أدّع يوماً من الأيام الشاعرية القصوى. لأن الشعر عبارة عن رسم بالكلمات، والرسم يحتوي على ألوان وأشكال ومعان وقيم. وبالتالي أعرف أن في شعري ضعفاً مثلما فيه قوة، والنقد الحقيقي يبحث في الجانبين، كما كتب أستاذنا الكبير وشاعرنا سعد البواردي منذ فترة عن شعري. فربما بعض النقاد يعتقد أنه يجاملني، ربما لأنه يحبني حتى بعد ترك الوظيفة ربما أنه يبغضني وكتب عن تجربتي. لكن تقبلت ذلك لأنه صار واقعاً، فعلاً ربما كثير من النقاد لم يقرأوا شعري، لماذا؟ ربما تجد من النقاد أستاذ الجامعة الذي لديه بحوث أو دراسات، وتصله في اليوم عشرات المطبوعات من المثقفين فلا يجد الوقت للقراءة، إلا إذا طلب منه أن يقرأ عملاً ما رواية أو ديواناً أو قصة ويكتب عنها ويعطي رأيه فيها. وأنت كمثقف تعرف هذا. أنا تأتيني عشرات الكتب، لكن الكتاب الذي يلفت نظري هو الذي أقرأه واحتفظ بالبقية في المكتبة، إنني أختار الكتاب الذي يلامس حالة اهتماماتي في تلك اللحظة، فتذهب دواويني للأدباء والنقاد والصحفيين كما تأتيهم الكتب الأخرى وأعتقد أن هذا هو التفسير الأصح، أنا من الشعراء القلائل الذين في الغالب لا يقرأ شعره إلا بعد أن يصدر في ديوان، والشعراء في الغالب ينشرون قصائدهم في المطبوعات والمجلات المختلفة فتقرأ، وتصنع لهم مجموعة من المتلقين والمتابعين، وترسم صورة لهم في ذهن المتابع، وبالتالي يصبح هناك موضوع يثار لدى المتلقي. أي يشكل حافزاً أو أرضية لموضوع ما؟ - نعم يشكل دافعاً لدى القارئ، أما أنا لظروف عملي ولظروف حياتي الآن أكتب الشعر ولا أنشره، وكثير من دواويني ستجد أن معظم القصائد فيها لم تنشر، فتصور أن يأتي هذا الديوان أو ذاك يطبع وينشر ويوضع في المكتبات. مثلاً قصائد ديواني «فجر أنت لا تغب» الذي نشر بعضه في «الجزيرة» ولو لبست ثوب الناقد لقلت: إن هذه القصائد تستحق القراءة لأن فيها نوعا من المحاكمة، أخلاقية وغيرها، وتحمل المجموعة تفاعلات تعبر عني مثلما لم يكن في أية مجموعة أخرى، بترابطها الزمني والموضوعي. * إذن ليست المسألة مجرد أزمة نقد حيث يبحث معظم النقاد عن الدرس النقدي السهل والمتاح بقراءة أعمال أديب أوشاعر ما لأنه كتب عنه كثيراً من قبل، لكن لا يوجد الناقد المغامر الذي يفجر سؤال البداية؟ - هي تحتاج لناقد لديه وقت، قل لي من هو الناقد المتفرغ الذي لديه وقت ويبحث عن موضوعات جديدة. لا أعتقد وجود ذلك النوع، لكن النقاد الموجودين في الساحة هم نقاد نشيطون في حياتهم، منهم: الأستاذ ، المسؤول، الموظف الكاتب الذي يلهث وراء مقالته اليومية أو الاسبوعية، أو يعد بحثاً ما وبالتالي أنا أجد لهم العذر حقيقة. * كيف يتمسك الشعر بهويته في ظل الأحداث التي يمور بها عالمنا العربي؟ - الشعر هو ديوان العرب، وهو ليس حالة طارئة كمخرجات العولمة وليس حالة مرتبطة بوقت، الشعر هو مستودع ذاكرة العرب ووجدانهم ولذلك الشعر حالة ستظل موجودة، ربما كما ذكرت تضيق المساحة مثل المجتمعات الغربية، فأغلب الناس يعتقدون أنهم لا يقرأون الشعر، لا إنهم يقرأون الشعر، طبعاً ليس بنسبة 90% أو 1% بل إنهم يقرأونه ويتابعونه، ونحن مجتمعات الشعر جزء من حياتنا اليومية من غنائنا ومن أحاديثنا، ولذلك بدأنا نضيق، عندما بدأت تضيق مساحة القراءة والتلقي والاهتمام. لأن الشعر كان يمثل لنا ديواناً يحتوينا في جلساتنا في نقاشاتنا ومداخلاتنا. الحياة العصرية الجديدة لها متطلبات واستحقاقات، هذه الاستحقاقات أخذت من الوقت ومن الفكر، ومن الجانب المادي ومن الجانب المعنوي ومن الجانب النفسي والموضوعي في حياة الناس. الحياة العصرية اقتحمت الوقت والفراغ الذي كان الشعر يملؤه، واقتحمت الاهتمامات التي كان الشعر يعالجها، وقدمت بدائل أخرى أكثر إغراء بسبب الأدوات التي أصبحت المعرفة تنتقل فيها، واقتحمت على الناس حياتهم وبدأت تقدم لهم المعلومة بشكل جذاب، هذه كلها تؤدي إلى حتمية تقلص المساحة التي يمارس الشعر وجوده فيها، وبشكل تدريجي، لكن سيظل الشعر موجوداً مهماً كان مدى قوة وتأثير الحياة العصرية على الشعوب. لماذا؟ لأنه مهما وصلنا في «عصرنتنا» سوف نصل إلى ما وصلت إليه الشعوب الأخرى التي ما تزال تقرأ الشعر وتقدر الشعراء. لكن الشعراء هناك ليسوا بالحجم الذي لدينا. انظر لصفحات الجرائد اليومية، وللمجلات الخاصة بالشعر، هناك توجد مجالات في جوانب ثقافية معينة، لكن الشعر له مجالات ومطبوعاته لدينا. فليس هناك تطاحن ولا تضاد بين الحياة العصرية وبين الشعر. هناك تطور طبيعي، ويجب ألا يزعجنا هذا التحول، مثلما هو تحول في كثير من مسلماتنا الثقافية، من مظهرنا إلى تفكيرنا إلى تعاملنا. هذه كلها آليات الثقافة ومظاهر الثقافة تأثرت كلها بالحياة العصرية ومخرجات العولمة، فبالتالي لا يمكن للشعر أن يموت أبداً. بمعنى آخر: إن الشعر تضيق المساحة الأفقية له، لكن سيظل في الخط العمودي الرأسي بشكل مستمر ومتطور. * لأنه مرتبط بهوية الإنسان العربي؟ - طبعاً.. طبعاً. * يواجه العرب اليوم هجمات شرسة اعلامية وغير اعلامية، ولما لك من خبرة ادارية مديدة..كيف يدير العرب أزماتهم التي يواجهونها؟ - الأزمات التي نمر فيها منذ 50 عاماً وما زالت تنمو وتتضخم هي أزمات من صنعنا نحن، ليس من صنع الغير، يجب ألا نلوم الغير، نحن الذين صنعناها بمواقفنا السلبية تجاه الأمور، أو بكيفية تعاملنا معها وإدارتنا للأزمات، وإدارة الأزمات بمفهومها المصطلحي أوالعام ليست جديدة. نحن لن نخرج من غابة أو من كهف، نحن أمة لنا تاريخنا وذاكرتنا وقيمنا وهويتنا، ولنا ما يعطينا المادة الأساسية للوجود ثم نحن مرتبطون أيضاً بهذا العالم المتطور الذي اقتحم علينا، واستغل عدم قدرتنا على توظيف طاقاتنا الكامنة المادية والنفسية والثقافية والإدارية، والمعنوية. عدم قدرتنا على توظيفها بشكل صحيح جعل الآخر المتقدم عنا في تنظيمه وادارته وتحديد أهدافه واستراتيجياته ويعرف أين يتجه، يجد في جغرافيتنا الإنسانية مساحة، زرع اسرائيل الدولة الصهيونية في قلبنا، زرعها عن قصد وهو يعرف نتيجة ذلك وما سيحدث كما حدث في 48، 56، 67، زرع البذرة الأساسية وتخلص من هذا الشعب البغيض زرعه في فلسطين عن قصد، ثم ظل يتابع واقعنا ويبحث عن النقاط الرخوة فينا، ونحن كمن أضاع مشيته كالغراب، فلا تمسكنا بمكونات هويتنا وثوابتنا وأصبحنا في القوة التي نحيا بها، لا تحولنا إلى إيجابيات منتجات الآخر المعرفية والحضارية ووظفناها في حياتنا. لكن ظللنا نتأرجح هنا وهنا، مع المعسكر هذا والمعسكر ذاك، صرنا أتباعاً، ورضينا أن نكون أتباعاً. في الخمسين سنة الماضية ظللنا أتباعاً للقوى الفاعلة وتحولنا إلى «مفعول به» لا «فاعل» وتحولنا إلى أدوات «تتلقى» لا.. «تُملي» وهذا ما يفسر لك ما صلنا إليه الآن. أنا لا أخذ بمفهوم «جلد الذات» لكنها هي الحقيقة. والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قانون إلهي معنا منذ 1400 سنة نردده في الليل والنهار، في كل مواقف حياتنا. استناداً إلى مقولة للدكتور فوزي منصور، هل خرج العرب من التاريخ؟ - لا. لا.. لم يخرجوا.. أنا لم تدخل إلى نفسي الروح الانهزامية، أنا مؤمن بكل مقدراتنا ولكن متى وكيف؟ هذا لا استطيع أن أجيبك عليه لكن ربما لا يزال هناك مزيد من المآسي، ربما هناك مواجهات أكثر أمامنا، ربما يمر بنا مزيد من الإيذاء. ولذا انظر للشعب العراقي اليوم بالرغم من أنه فرح بسقوط النظام المجرم إلا أنه بدأ يتحرك ضد الاحتلال لأنه لا يقبل الذل، ومهما سميت من يقوم بالمقاومة، هل هم أتباع صدام حسين؟ لا. إنه الشعب العراقي. كذلك الشعب الفلسطيني وصموده فالصهاينة يدمرون بيوتهم ويقتلون أطفالهم، ومفكروهم وقادتهم مع ذلك ظلوا صامدين. إنه نموذج حقيقي لصمود الإنسان أينما كان على هذه الأرض، ليس نموذجاً للعرب وحدهم. ولذا نحن لدينا نماذج للصمود، وهذه النماذج هي التي دائماً تعطيناً الأمل والقناعة لأننا نحن أمة نملك المقومات لاسترداد المبادرة، لكن ما نزال مشتتين وضعافاً والآخر يعرف هذه النقطة، وله 50 عاماً يوظف كل جهده للضرب على هذا الناقوس لتمزيقنا. أنا لا اعتقد أن النهاية في العراق أو ما نواجهه اليوم في الداخل من تفجيرات مجرمة، لكن أنا اعتقد أن كل الدول العربية الأخرى تمر بتحولات والآن القيادات في الوطن العربي سوف تدرك، والمحك الآن أن هذه القيادات ليست كما كانت عليه من خمس أو عشر سنوات. الآن هناك مواجهة، لأنها مطلوب منها شفافية لأن شعوبها تواجهها بشكل آخر، ربما هناك تحرك للشعوب من خلال آليات المشاركة السياسية، في النهاية هذه الأمور هي التي ستعطينا الأمل. لكن ليس من خلال العنف أو «العنتريات» أو الخطاب التهييجي أو خطاب الإثارة. فقط من خلال العمل المنظم، كل شعب من الشعوب العربية يتجه للإصلاح ولتطوير ذاته والاستفادة من طاقاته الإنسانية والمادية والمعنوية. هذا هو المفتاح الحقيقي. عندما بدأت الكلام قلت: نحن المسؤولين عما أصابنا لأننا أيضاً نحن الذي بيدنا التغيير والقدرة على حماية أنفسنا، ومهما حاول الغرب بكل ما يملك من طاقات مدمرة، وعقول، وتخطيط، ومراكز بحوث لا يستطيع أن يصمد إذا نحن بدأنا نعيد النظر في بناء أنفسنا لأننا نحن أصحاب القرار، وفي الأخير سوف يتعب الغازي وسوف يضطر أن يتعامل معنا. لم يحن ذلك بعد، لكنني متفائل، لأسبابي، فتفاؤلي ليس مبنيا على رغبة في الخروج من المأزق، ولكن لأنني مؤمن بالله، وبإمكانية الاستنهاض. * كيف تواجه النخب السعودية ما طرأ أخيراً على المملكة من أحداث إرهابية، والتي ينظر إليها أنها الحصن الأخير للتراث وللأمة بوجه عام؟ - أنا أود البدء بالنهاية، سوف تظل المملكة هي الحصن الأول والأخير بإذن الله للأمة، بوعي هذا الشعب وقيادته، لأن هذا الشعب لم يعتد على هذا التحدي الجديد الذي يحمل بصمات منظمة ولديه برنامجه السياسي وغاياته، والمجتمع الآن بدأ يتحفز ويدرك وسوف ننتصر في النهاية. ولكن المثقف السعودي بكافة الشرائح والاهتمامات في الفترة الأخيرة، بسبب المساحة التي أعطيت له والتعبير عن رأيه من خلال الصحافة، وطرح الآراء والأفكار في مجال الإصلاح وغيره، أعتقد أن ذلك أظهر الوجه الحقيقي لطاقته وقدرته التي تبدت بشكل إيجابي. كانت هناك مشكلة، ربما كان هناك بعض التوجس وبعض القيود ولعل ذلك مرده أنه كان لنا صوت واحد فقط، وكان هناك ما يقرب من «الأرهاب الفكري» من قبل فئات أخرى حملت اسم الاسلام الذي هو قاعدة حياتنا في هذا الوطن وقاعدة حكمنا، وسيظل إن شاء الله هذه الفئات لبست قناعاً اسمه «الإسلام» واستخدمته لمحاربة أية أصوات أخرى تريد أن تكشف في وقت مبكر وفي مراحل مختلفة أسس ما وصلنا إليه الآن، فبالتالي اعتقد أن لدينا طاقة ثقافية كبيرة، مخرجات التعليم لدينا كبيرة، ومن المفاجئ لي أنني استمعت لبعض المثقفين من الشباب، لا أريد أن أسميهم لكي لا استبعد أحداً، ستة أو سبعة أو عشرة تكون مجموعة طلعوا في لقاءات تليفزيونية وفي كتابات متعددة، شباب لا تتجاوز أعمارهم 40 سنة لكنهم بدأوا من حيث انتهى الجيل الآخر، وبدأوا يفتحون المجال ويدفعون الجيل السابق لفتح آفاق جديدة، فعلاً شعرت بالثقة أكثر، لأن فعلاً لدينا أصوات ثقافية غير تلك التي اعتدنا عليها في السابق والتي أدت واجبها في حدود المتاح، لكن اليوم لدينا أصوات جديدة أخرجتها الأحداث وتلك أدوات التعبير، والرؤية الصحيحة، والثقافة والاستيعاب، ولديها الشجاعة أيضاً بأن تقول. نحن في هذا البلد لكي يمارس المثقف سواء كان اتجاهه - وأنا استغرب تسمية الاتجاه الإسلامي لأن كل الكتاب مسلمون وتربوا تربية إسلامية - ليبرالياً أم علمانيا أم مستقلاً، هؤلاء يملكون أدوات جديدة ومن أكبر الأخطاء هو مشكلة الاقتصاء والتصنيف، نحن مجتمع مسلم، في أعماقنا إيمان بالعقيدة وتمسك بالمسلمات، وقد يكون لدى بعضنا آراء حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها الوضع في تحليل أزمات معينة وإدارتها. يجب أن نرفض أحادية الطرح وأساليب الإقصاء. وهذا بدأ يظهر ويتجلى في مشروع الحوار الوطني. الذي آمل أن يتفق فيه المشاركون على القواسم المشتركة لما فيه مصلحة الوطن وأمنه وهويته. * هناك أسئلة تطرح في وسائل الإعلام الخارجية حول وضعية بعض المذاهب في المملكة، وأمريكا تطلب إصلاحات ووضعت خمسة مطالب كما نشر بوسائل الإعلام مثل: حرية المرأة، وإلغاء بعض الهيئات الدينية، وتطوير التعليم كيف تنظر لهذه المطالب الخارجية؟ - أولا نبدأ بأمريكا وأنها تطلب إصلاحات، لأمريكا أن تطلب ما تشاء، السؤال هو: هل ما تطلبه أمريكا، أو ما يطلبه الناس في كافة مواقعهم سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، هل هي أشياء مطلوبة للوطن أم لا؟ إذا كان ما تطلبه أمريكا مطلوباً لأمريكا فيجب أن نرفضه رفضاً مطلقاً، فلا يملي علينا أحد ذلك. أما المناهج فيجري تحديثها بشكل دائم ولا بد من الإسراع في ذلك، وإذا قال الأمريكان أو اليابانيون إن مناهجنا - كما يقولون - لها دور في صنع التطرف فمن واجبنا أن نبحث ونقول: شكراً لكم لإسدائكم هذه الفكرة، هذا إذا كنا لا نعرفها، أما أن نربط بين ما تطلبه أمريكا وما تسعي له الحكومة من إصلاح في البلد فهذا إهانة لي أنا كمواطن، وإهانة لوطني، أمريكا تطلب ما تشاء، إذا كان ما تطلبه أمريكا مناسب لنا فلننظر فيه. المرأة يتطور دورها، والمجتمع مسؤول عن ذلك، وهناك اتجاه حقيقي في المجتمع السعودي لتطوير دور المرأة، ومنظور للمرأة كمجتمع مسلم تقليدي يختلف عن وجهة نظر الأمريكان، ولا يعني ذلك أن وضع المرأة كله صحيح فهي لها طاقة متعلمة وقادرة ونصف المجتمع ويجب أن نخطو خطوات لإعطائها دوراً أكبر. اعتقد أن هذه الحالة إهانة لذاتنا ولهويتنا أن نعتبر أي اتجاهات للإصلاح تتبناها الحكومة أو يطالب بها فئات من المجتمع أن تكون نتيجة لمطالب أمريكا حتى ولو اتفقت مع ما يطرحه الأمريكان. أما المذاهب في المملكة فإن انطلاق الحوار الوطني الذي يتأسس على كوننا شعباً واحداً ووطناً واحداً، تجمعنا غاية واحدة هي الحفاظ على وطننا وتطويره وتكاتفنا، واحترام حق كل منا في ممارسة ما يعتقده وما يراه دون أية إسقاطات أخرى تمليها فئة من الفئات.