سميح القاسم، شاعر مختلف، مجرِّب حد الإيغال في التنوع والبحث عن الغريب. كتب في أشكال القصيدة ما لم يكتبه شاعر عربي، بدءاً من قصيدة النثر، مروراً بالتفعيلة في صورها وتحولاتها، وانتهاء بالأوزان الكلاسيكية الرصينة والمتعددة. وما بين هذا وذاك من الكتابة النثرية الببليوغرافية، ما قاد تجربته في سهول وفي جبال وعرة ومسالك صعبة، وما جعل هذه التجربة بين الأغنى والأشد إثارة للاختلاف لدى قرائه. وكانت العلاقة الشعرية بينه وبين محمود درويش، والمستوى الفني لكل منهما، والقضايا والتحولات في تجربتيهما، كانت هذه كلها مجال أسئلة وحوارات وجدل لم يهدأ حتى الآن. سميح القاسم عاد الى واجهة الحدث السياسي قبل أيام بعد القرار الذي أصدرته الحكومة الاسرائيلية ومنعته بموجبه من زيارة لبنان. وأحدث هذا القرار "الغاشم موجة هائلة من الاستنكار والشجب في لبنان والعالم العربي. هنا حوار مع سميح القاسم شاعراً ومواطناً فلسطينيا من أرض الداخل. اسمح لي أن أسألك بدءاً: ماذا عن زيارتك الممنوعة الى لبنان؟ وما الذي تحمله فيها، وما تتوقع من لبنان أن يقدم لك؟ - في طفولتنا كنا نتحدث عن بلاد الشام، فلسطين والأردن وسورية ولبنان، ونغني في العتابا والميجانا "لبنان ضمة ورد في صدر سورية". لكن ضمة الورد هذه مفخخة، ملغومة، تعطي الأريج والزجل وفيروز والكبة النية والتبولة، ثم تقدم المقاومة المؤهلة للتحرير والانتصار وقهر أخطر جيش في المنطقة. من ناحية ثقافية، الجليل الذي أنا منه يشكل ولبنان وحدة ثقافية، وحدة عادات وتقاليد. وفي لبنان رفاقي في الشعر والفكر والسياسة. وعائلياً لي أهل وأقارب لاجئون في لبنان، ثم تبقى هذه التعددية في لبنان التي أعتبرها مصدر غنى ثقافته وتميزه واختلافه عن السائد. فلقائي بلبنان كان سيكون له مغزى عميق ومثير وعاطفي وراق. لكنه لم يتمّ كما تعلم ويكفي أن تستعيد المواقف التي أعلنها أهل الأدب والثقافة تضامناً معي... أبدأ مرة أخرى بتجربتك الشعرية منذ شعر المقاومة، يلحظ متابع هذه التجربة انها ظلت في اطار الهم القومي والوطني؟ - أولاً، فتعبير شعر المقاومة لم يصدر عنا نحن، نحن قلنا شعراً من أجل أن نتمكن من مواصلة الحياة، من أجل ألا نفقد المقدرة على السير المنتظم، من أجل أن نتنفس. التسمية جاءت من الخارج، والذي أطلقها يستطيع سحبها متى شاء، لكن الشعر، هذا الطراز من الشعر المتورط، سمِّه ملتزماً، سمه مسيَّساً، فالتسميات شأن النقاد والباحثين، وأنا أدعي مهنة الشعر باعتباره مبرراً لحياتي شخصياً، لم أقل في أي وقت انني أكتب من أجل الوطن أو القضية أو "الثورة والنار"، والجماهير الكادحة، قلت دائماً انني أكتب من أجل ذاتي أولاً، فإذا كان ثمة شيء من الانسجام بين ذاتي وذوات أخرى، فأهلاً بالصداقة مع القطاع العريض من شعبنا ومن أبناء الأمة ومن العالم أيضاً، فحين أستعيد قراءاتي خارج الوطن العربي، من مدريد الى أميركا، ومن موسكو الى لندن، أستطيع القول ان لدي جمهوراً من الأجانب يتتبع آخر قصائدي، يطلب توقيعي على قصيدة مترجمة أو على كتيّب. عمّا يبحث هذا الجمهور في شعرك؟ - الجمهور لا يريد القضايا السياسية، ليس التعاطف مع الشعب الفلسطيني هو فقط ما يشده، يستطيع التعاطف بتوزيع رسالة على الانترنت مثلاً، لكنه يلغي برنامجه العائلي ويأتي الى أمسية شعرية، إذاً هو يريد الشعر وليس فقط المعنى أو المضمون أو ما يمثل الشاعر، هذا يعزز ما ذهب اليه ناقد عربي - لا أذكر اسمه الآن - كتب أن القصيدة هي قصيدة حياة وليست قصيدة سياسة أو حب أو فرح أو حزن، إنما هي قصيدة حياة، هي كل مركبات الحياة: الحب والجنس والثورة والغضب والحزن والفرح والشجن والتوق والحنين واليأس والشجاعة والإحباط. كل هذه العناصر يبدو انها توافرت في هذه القضية حتى يصفها الناقد بأنها قصيدة حياة. هل زال الاحتلال الاسرائيلي لنطالب بانتهاء شعر المقاومة؟ هل انتهت العنصرية الصهيونية حتى نقول بانتهاء شعر المقاومة؟ هل انتهى الغزو الأجنبي لبلادنا... بلاد العرب، وبلادي كما تعلم ليست فلسطين، بلادي هي الوطن العربي من محيطه الى خليجه، هذه بلادي، هذا وطني، الحدود غير قائمة في وجداني وفي ضميري وفي وعيي. لو منحت لي فرصة لأقوم بوظيفة في جامعة الدول العربية مثلاً، لطلبت وظيفة ممحاة، أريد أن أعمل ممحاة لأمحو هذا الوسخ - الذي يسمى حدوداً - عن جسد الوطن العربي، أسباب المقاومة ما زالت موجودة وليس فقط على المستوى الفلسطيني، كانت لي قصائد حول عدن حول اليمن حول مصر حول لبنان، والعراق وحول سورية، ليست قصيدتي قصيدة الهم الفلسطيني فقط، بل الهم العربي ككل. يلحظ المتابع لتجربتك الشعرية، أنك الأقل تغيراً وتحولاً، فشعرك منذ البدايات الى الآن يضرب على الوتر الوطني والهم العربي في شكل عام، والهم الانساني - الى حد ما - أيضاً. ولكن أنا أردت الاشارة الى نقطة تحول في الشعر الفلسطيني بالذات، وهذا ربما نجده لدى الجيل الجديد وليس لدى جيلكم، والذي بدأ يتجه نحو قصيدة التفاصيل اليومية، ويبتعد من قصيدة الشعار إذا جاز التعبير؟ - هنا يوجد خطأ بصري كبير، أولاً الشعار ليس خطيئة اذا كان مصوغاً بفنية، بسم الله شعار مثلاً، لا إله إلا الله شعار، يا عمال العالم اتحدوا شعار، المهم هو كيف يوضع هذا الشعار في نسيج شعري متناسق، هذا الذي يحكم على الشعر اذا كان ايجابياً أم سلبياً، أيضاً اذا قلت لامرأة أنت جميلة فهذا ليس شعر غزل، ان لم تصبغ جمالها في صبغة شعرية مناسبة فهذا يكون شعاراً رديئاً، الرداءة ليست وقفاً على السياسة، والذين يقولون هذا الكلام هم مسيّسون، هم بتربيتهم أو بثقافتهم أو بالتزاماتهم الشخصية والبعدية مسيّسون في الاتجاه المضاد، هم ضد حركات التحرر الوطني لذلك السياسة موجودة هنا وموجودة هناك، اذا كان لا بد منها فلتكن في الخندق الصحيح... في الخندق التقدمي، وليس في خندق العمالة والخيانة والجبن والترهل والركوع أمام الصهيونية والاستعمار والرجعية العربية، هذا الثالوث الدنس الذي كان وما زال وسيظل العقبة الأساسية أمام التطور الانساني العربي. هل تشير هنا الى نمط شعري معين، أو أسماء شعرية محددة؟ - لا، لا تعنيني الأسماء، ولم تكن لي قضية مع الأسماء، لي قضية مع حالات شعرية وظواهر شعرية موجودة ومتوافرة بسلبها وإيجابها، أنا أناقش ظواهر وحالات، أما بالنسبة الى قصيدتي فقد قلت انها قصيدة حياة، أعتقد ان فيها الكثير من تفاصيل الحياة إذا قرئت قراءة متأنية، وإذا لم تقتصر القراءة على القصائد الشهيرة تقدموا أو سأقاوم أو منتصب القامة أمشي أو لا تعدوا العشرة أو معجم الشهداء، هذه القصائد ذات الوهج المباشر الميداني العراكي المنبري، هي قصائد أعتز بها كثيراً لأنها قصائد صعبة، قد تكون هي الأصعب، لأنك لا تستطيع أن تفلت من شرك المنبرية بسهولة، وأعتقد انها هي الاختبار الحقيقي للشاعر. هل تتعامل مع المنبرية كخطيئة؟ - لا. لا، هي، في اعتقادي، الفن الصعب. هل تتكلم عليها كفن شعري يمكن استخدامه وتوظيفه في شكل جيد؟ - اذا كان الجواهري خاطئاً، فماذا يبقى من الشعر العربي المعاصر في القرن العشرين، إذاً هذه مسألة مبتوتة عندي من بداية تجربتي الشعرية، أنا مع الثبات في المضامين، فالقناعات والآراء ليست قمصاناً نستبدلها من وقت لآخر، قناعاتي القومية والاجتماعية والانسانية هي قناعات راسخة وثابتة ودائمة، لأنني مصر على انها الأكثر سلامة على وجه الكرة الأرضية. إنما في مجال الشكل الشعري، هناك أجد مجال المغامرة اللامحدودة، وأكثر من ناقد يلاحظ هذا الهوس بالتجديد والتجريب، والهروب من التكرار، ورفض المألوف، بهذا ندخل في مسألة أعتقد انها سابقة لأوانها، وأعتقد انها ستبت لاحقاً ربما بعد خمسين عاماً أو مئة عام، يكون هناك نقاد محترفون ومحايدون، لا تربطهم علاقة شخصية بي أو بك أو بأي شخص، وسيأخذون هذه النماذج كاملة وأنا سعيد بقرار هؤلاء آنذاك. هناك من يقرأ شعرك بكل أبعاده وبكل المستويات التي طرأت عليه، في العشر سنوات الأخيرة بدأت ألمس في شعرك دخول الأسطورة وتوظيفها في شكل أكبر من السابق، وكذلك الخرافة والحكاية وقد بدأ هذا في الثمانينات، عن أي شيء يعبر هذا؟ - لا يعقل أن يعبر الشخص عن ذاته وهو في الستين كما عبر عنها في الثامنة عشرة من عمره، في مرحلة الفتوة والشباب والرجولة المبكرة هناك الايقاعات الحادة والألوان الحادة، هناك المعاني الواضحة وضوح الجرح... وضوح السكين، وهناك الصعوبة في صوغ هذه الأمور بشعرية مناسبة، لكن بعد الأربعين هناك تحولات جسدية وسيكولوجية وثقافية ومعرفية ومعنوية لا بد من أن تنعكس على القصيدة فتصبح الألوان الحادة أقل حضوراً، والأسئلة تزيد الحاحاً. وجدت نفسي متورطاً في الحوار منذ فترة مع أحد الصحافيين، قال: كيف تعرف الشعر؟ قلت "لا أستطيع تعريف الشعر بل أستطيع وصف نفسي" قال: صف نفسك. قلت: أنا إنسان في النصف الأول من عمره صدق كل شيء وفي النصف الثاني لم يصدق أي شيء، لا يصدق شيئاً على الإطلاق. أليس هذا انقلاباً؟ - هو انقلاب، وهو ينعكس في القصيدة. ولكنه لا ينعكس في شكل كبير، أي انك ما زلت تحمل الأسئلة الكبيرة نفسها؟ - في اعتقادي انه ينعكس بزخم وفي شكل واضح في الخمس او العشر سنوات الأخيرة، بدءاً من خذلتني الصحارى الى كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه الى جلجامش. في هذه القصائد استاذ سميح يظهر الهمّ العام والقومي أكثر مما يظهر الهم الخاص؟ - لا، فهناك توازن طبيعي وصحيح، ثم ما هو الهم العام بالنسبة إليّ؟ ففي قضيتنا لا توجد حدود بين الهموم الخاصة والعامة، حين أكتب في الحال الفلسطينية أنا لا أكتب عن فيتنام ولا أكتب عن كمبوديا ولا عن ايرلندا أو أميركا الجنوبية، أنا أكتب عن حياتي اليومية، وأيضاً لا يوجد هم انساني أكبر من الهم الوطني، كل ما يحويه الهم الانساني يتداخل في الهم الوطني في الهم الوجودي، هناك محاولة تجزئة سخيفة حيث يقال ان الهم الوطني هم سياسي عام، أما هم الجسد فهم ذاتي خاص، الطبيعة همّ مشترك بين العام والخاص وهذه تجزئة سخيفة، قد تصلح للجراحين، حيث الجراح يفصل بين الكبد والقلب في العملية الجراحية، في الشعر لا مجال لهذه التجزئة، فالحياة نفسها لا مجال فيها لهذه التجزئة. فما معنى ان يستوقفني، في فلسطين شاب اثيوبي ويطلب هويتي؟ هي قضية وطنية وقضية شخصية إذاً. أنا ابن البلد، صاحب البيت، يستوقفني قادم جديد من أثيوبيا، أمس هبط عن الشجرة، يطلب هويتي، يتحرش بي وبحريتي في بلدي... في وطني، ما هذه التجربة؟ هل هي تجربة ذاتية فقط؟ هل هي تجربة سياسية فقط؟ هل هي تجربة عسكرية فقط؟ هل هي تجربة تاريخية فقط؟ أبداً، هي تجربة حياة بكل أبعادها وفي حياتنا لا مجال لاستبعاد السياسي، لا مجال للفصل. حين يكون الشاعر على موعد مع حبيبته مثلاً، وتدهم الشرطة منزله ليلاً وتعتقله فيتشوش الموعد، ما هي القصيدة التي يكتبها؟ سيكون فيها الشرطة وحبيبته وفيها الغضب والحزن وفيها الكرامة الشخصية والوطنية وفيها الوجع الانساني. لماذا نفتعل الحدود؟ الذين افتعلوا الحدود هم أشخاص مسيسون لخدمة الخندق المعادي لشعوبهم وأوطانهم. هناك من يرى أنه في الوقت الذي دخل الشاعر محمود درويش - وهو زميلك في شعر المقاومة في مرحلة من المراحل - الى أنماط مختلفة من الشعر، دخل الى مناطق في الذات لم يدخلها شعر سميح القاسم، وبقي فيه سميح القاسم يرى المسألة وكأن كل الأبعاد تلتقي في قصيدة واحدة، الأبعاد الاجتماعية والفكرية والوطنية، بينما أخذ محمود درويش يحفر في اتجاه آخر في اللغة، التجريب ربما أعلى، فإلى أي حد ترى هذه الصورة صادقة؟ - أعتقد انه كلام قائم على خطأ بصري، وهو قائم على فرضية خاطئة، أنا ومحمود مختلفان منذ الكلمات الأولى كنا وما زلنا صديقين حميمين، أمس مساء تعشينا معاً وتحدثنا في الشعر وفي الحياة، لكن في التجربة الشعرية نحن مختلفان منذ البدايات، لا أدعي أنه على خطأ ولا يدعي انني على خطأ، تجربتي محكومة بظروفي الشخصية، وتجربة محمود درويش محكومة بظروفه الشخصية، لذلك لا يعقل أن يطلب من محمود درويش أن يكون نسخة مني، أو أن أكون نسخة من محمود درويش ولسنا نسخة أحدنا عن الآخر، تجربتنا متكاملة وأنا مقتنع حتى النخاع بما أفعل، ومفاهيمنا مختلفة في الساحة الثقافية العربية. فهناك أمور تعتبر مهمة جداً في الساحة الثقافية العربية أعتبرها أنا سخيفة جداً، وهناك أمور تعتبر سلبية أعتبرها مهمة جداً، لذلك نحن تجربتان مختلفتان ومتكاملتان، أعتقد أن أحداً لا يستطيع دراسة شاعر منا من دون العودة الى أخيه، هذه الثنائية فرضت علينا. نحن لا نحب هذه الثنائية، لا يوجد شاعر يحب ان يقرن اسمه بشاعر آخر لا للأسوأ ولا للأفضل، لكن نحن نتعامل مع هذه المسألة من منطلق مختلف تماماً. ما مدى الاختلاف الشعري هذا؟ - الاختلاف هو أيضاً في الذائقة بين النقاد، قد تجد ناقداً يؤثر تجربتي وآخر يؤثر تجربة محمود درويش، بالتالي هما معاً يكرسان تجربتي وتجربة محمود درويش، هناك تكريس لهذه التجربة، في مسألة الذائقة لا مجال للنقاش، قد تحب امرأة يراها الجميع قبيحة وأنت تراها أجمل نساء الأرض. هذه مسألة ذائقة، أما في المقاييس النقدية المحترفة تماماً فلا بد من الحذر في إطلاق الأحكام. أتوقع ان الخلاف بدأ منذ شاعت قصيدتك إليك في بيروت؟ - من الجيد أنك أشرت الى تلك القصيدة. هل تعرف متى نشرت هذه القصيدة؟ هذه القصيدة نشرت في ديوان دخان البراكين الصادر عام 1968، ومحمود درويش غادر فلسطين في 1971، هذه من الخرافات التي تتردد في الساحة الثقافية العربية، أحياناً بحسن نية وأحياناً بسوء نية وغالباً بسوء نية، أنا لم أكتب هذه القصيدة رداً على سفر محمود درويش كما عرف، وبما أنها طبعت في الديوان ذلك العام فلا بد من انها نشرت في صحيفة عام 1967 أو 1966 فهل يعقل هذا؟ ما الذي جعلها تتردد على أساس انها رد على خروج محمود درويش من الوطن؟ - انها قصيدة حال، الفلسطيني الذي يتدبر أمره في الملاجئ ويدعو فلسطينيين آخرين للالتحاق به في الملاجئ، إذاً هي حال انسانية ووطنية وسياسية وذاتية وفردية فيها كل شيء، القصيدة كتبت عن هذه الحال وألصقت بمحمود درويش ظلماً وبهتاناً، هذا لا يعني اننا لا نختلف. هذا واضح في الرسائل التي كنتما تتبادلانها، فقد كان واضحاً أنكما اتجاهان مختلفان كل له عالمه وجموحه وأفقه؟ - ربما لو كنا متطابقين في الأفكار لما استطعنا ان نكون صديقين، سبب صداقتنا هو هذا التلاحم والاختلاف، أنت في اتجاهك وأنا في اتجاهي، ويكمل أحدنا الآخر. نحن لا نتنافس، هناك وهم خلقه الإعلام يوحي بأننا نتنافس، أنا متأكد أن محمود يفرح بقصيدة جديدة لي كما أفرح بقصيدة جديدة له. بمناسبة ذكر القصائد الجديدة، فما رأيك في تجربته الأخيرة في الجدارية؟ - أمس التقيت محمود وقلت له انني لم أقرأ هذا الكتاب، واليوم سوف يهديني نسخة منه، للأسف لا أقرأ كل ما يكتبه محمود، فالصحف والمطبوعات العربية لا تصلني في عزلتي وقطيعتي، وأنا، بالمناسبة، سعيد لهذه العزلة، لأن الحياة الثقافية العربية لا تثير الاحترام، وتفتقر الى الاستقامة افتقاراً شديداً، ومملوءة بالأمراض وحروب العصابات. كيف يمكن أن تصف الأمراض وحرب العصابات في الحياة الثقافية وأنت في عزلتك في الداخل؟ - من بعض ما يصلني أو بعض ما ألاحظه خلال تجوالي من وقت لآخر في الوطن العربي. أي ان هناك تواصلاً بينك وبين الساحة الثقافية العربية؟ - قليل جداً ومحدود ولا أريد أكثر من ذلك، يصعب علي أن أضع نفسي في هذه الخريطة. ما هي أخطر الأمراض في الساحة الثقافية العربية برأيك؟ الأمراض المدمرة؟ - أخطرها هو الضحالة، الانتهازية، وغياب الثقة بالنفس، والتراخي أمام أول إغراء من السلطة، غياب الرغبة في الاستشهاد التي سادت المثقفين في الخمسينات مثلاً، وفي الأربعينات والستينات وحتى السبعينات، كانت هناك شهوة الاستشهاد لدى المثقفين، كانت علاقته مع السلطة مختلفة، كان نداً للسلطة، لا أعتقد ان كل حكومات العراق في القرن العشرين استطاعت تدجين الجواهري مثلاً أو إحناء قامته، حتى لو انه جامل هنا وهناك جامل أحياناً. كيف تصف علاقتك بالسلطة الفلسطينية؟ - علاقتي بالسلطة الفلسطينية لا يمكن أن تكون شبيهة بعلاقتي بالسلطة الاسرائيلية طبعاً، السلطة الوطنية الفلسطينية هي السلطة المنبثقة عن تارخي السياسي، ولذلك هي بكل أخطائها وبكل مآسيها امتداد لتجربة سياسية أنا جزء منها. علاقتي مع السلطة علاقة مشروطة، أنتقد حيث هناك مجال للانتقاد، أنتقد مباشرة وكتابة وشفهياً، أنتقد ما لا يرضيني وأشجع ما يعجبني، وأرفض الحكم على السلطة الفلسطينية وكأن الاحتلال زال والدولة قائمة ومؤسسات الدولة تعمل كالساعة السويسرية، ما زال الاحتلال قائماً، ما زال الطيران والقصف قائماً، ما زالت الحرب مستمرة، أحياناً أحس أن هناك موقفاً سياسياً يبحث عن السلبيات فقط، لا يريد إلا السلبيات، يريد فقط أن يرى عيوب السلطة الفلسطينية، ومن المدهش أن بعض المثقفين العرب يهاجمون السلطة الفلسطينية ولا ينتقدون سلطات بلادهم. ماذا عن الشعر العربي الفلسطيني عندكم، لماذا لم تتشكل أصوات شعرية كبيرة بحجم سميح القاسم ودرويش؟ هل اختلف الزمن الى حد ألا ينجب شعراء كبار؟ - ثمة أصوات شعرية جديدة جيدة، لكنها في طور التشكل والبحث عن الهوية وعن الشخصية الخاصة، وأنا أحذرها من التقليد، حتى لا تكون نسخة عنا، نحن نريد من يكون اضافة الى تجربتنا وليس نسخة عنها. هناك مئات القصائد التي طالبت أصحابها بتمزيقها لأنها كانت تشبهني. هذا من جانب، ومن جانب آخر فالزمن قد تغير فعلاً، نحن ولدنا في سرير الاحتلال والحكم العسكري، بكل ما تحمل العبارة من دلالات. وكما تعلم لكل مرحلة أصواتها. شعرياً، ما الذي تعد به، ما الجديد لديك؟ - أعمل على انجاز قصائد تجريدية وسوريالية، قصيرة، تتناول تفاصيل صغيرة على نحو سوريالي، كأن أفتح باباً لأدخل فلا أجد بيتاً، أو أستظل بشجرة فلا يكون ثمة ظل، أو أجلس بين صخور فتتحول غباراً... الخ. من أين تأتيك هذه الصور، هل هو التجريب؟ - انها الكوابيس الحقيقية، أصحو من كابوس فأكتب ما تبقى منه في الذاكرة. ثم انني لا أستطيع الاستقرار في نمط شعري محدد، وأظل أحاول وأتنقل بين الأشكال، وأعود الى الأوزان الكلاسيكية التي أعتبرها امتحاناً صعباً، وأنتقل فجأة الى قصيدة الهايكو. هذا نتاج قلق. أما الهدوء الظاهر فهو درع أمام العالم حتى لا يتطفل علي، وعلى خصوصياتي. أنا لا أرغب ان يرى الآخرون داخلي إلا من خلال القصيدة. هذا يعني انني أغوص في داخلي، بل أزعم انه لا يوجد شاعر عربي دخل الى ذاته بالجرأة التي دخلت بها أنا الى ذاتي. وأنا شخص محتشد بالتناقضات، تركيبتي تعددية، أرتدي من بيير كاردان وأحمل سبحة ايرانية وأكتب قصيدة هي الحداثة نفسها. في ترجمة الأدب العربي الى العبرية، ثمة شقان للموضوع، الشق المتعلق بالتطبيق الذي يمارسه بعض الكتّاب عبر تعاقدهم مع ناشرين اسرائيليين، والشق المرتبط بترجمة الأدب العربي وما تقدمه هذه العملية للأدب وللقضية الوطنية؟ - ثمة جدل كثير حول هذه المسألة، أنا منذ البدء مع ترجمة الأدب العربي الى العبرية، لما يمكن أن يحدثه هذا الأدب في القارئ - ثم في المجتمع - الاسرائيليي. الترجمة ضرورية. من الضروري أن يقرأ اليهود ما ننتجه، ويتعرفوا علينا من كتاباتنا. لكنني لست مع أن يفتعل البعض قضية من هذه المسألة. فالبعض يستغل ما جرى ليثير قضية لا يبغي منها سوى الشهرة. أما مسألة الاتصال بالناشر الاسرائيلي، والتعاقد معه، فهي مرفوضة مثل أي اتصال مع الاسرائيليين ما دامت اسرائيل تعتدي على الحقوق الفلسطينية والعربية. نحن ضد أي تطبيع مجاني. لكننا مع نقل الأدب العربي الى العبرية كي نخترق هذا المجتمع... الخ.