يثير الجدل حول قصيدة النثر دهشة كثيرة ممن يهتمون بأمر الشعر العربي، فما يزال هذا الجدل ساخناً على الرغم من مرور وقت طويل على الظهور الأول لهذا المصطلح المشكل، والمفترض حسب طبائع الأشياء أن تبرد حرارة النقاش بمرور الوقت لا أن تزداد سخونة حتى وإن وصلت إلى درجة الغليان، لكن ما نراه أن النقاش حول قصيدة النثر بدأ عند درجة الغليان، واستمر كذلك حتى الآن، وهذا له سببه أو أسبابه التي سأعرض لها بعد ذلك، كما أعطى هذا الجدل انطباعاً بأن قضية الشعر العربي قد اختزلت في الصراع حول قصيدة النثر، على الرغم من أن المشكلات التي تواجه الشعر أكثر تعقيداً مما يظن كثير ممن يهمهم أمر الشعر، وأولها - ربما أهمها - هو قدرة الشعر كنوع أدبي على الاستمرار في ظل تحديات كثيرة ومواجهات خرج في بعض منها مثخناً بالجراح تاركاً الساحة لأنواع أدبية أخرى. وأزمة الشعر هنا ليست خاصة بالشعر العربي، فالشعر في أوروبا يعاني من أزمة شبيهة، وربما تكون أشد استحكاماً مما يواجهه الشعر هنا. لذلك يبدو جدل قصيدة النثر نوعاً من الترف الفكري نمارسه بعد أن فرغنا من قضايا الشعر الكبرى. وقصيدة النثر منذ نشأتها الأولى المختلف عليها حتى الآن ظلت تياراً هامشياً في مسيرة الأدب العربي الحديث، وستظل كذلك لأسباب تخصها كنوع أدبي هجين، وهذا الحكم المسبق بالقيمة يحاول أن يضع إشكاليتها في حجمها المناسب، كما يحاول - وهذا هو المهم - أن يبحث عن أسباب هامشيتها التي يبدو أنها سمة قدرية لها. إن البحث حول قصيدة النثر يجب أن يبدأ في ظني بالإجابة عن السؤال المهم حول الكيفية التي تظهر بها الأنواع الأدبية وتخفى، كما يبحث عن الخصائص الكامنة في النوع الأدبي التي تجعل هذا النوع صامداً أمام التغيرات الدرامية التي يواجهها عبر التاريخ، وربما تبدو هذه البداية شديدة العمومية أو ربما تبدو كذلك نقطة متعالية على موضوع قضيدة النثر، لكنها مدخل قد يساعد على إيضاح بعض الالتباسات المرتبطة بهذه القصيدة. ولا يمكن الحديث هنا عن أسباب عامة لظهور الأنواع الأدبية، ولا الحديث كذلك عن خصائص كامنة قد تصدق على أي نوع، فهذا عمل لا يمكن إنجازه إلا بعد عملية استقراء واسعة للأنواع الأدبية التي ظهرت في الأدب العربي، لكن حصر النقاش حول قصيدة النثر كنوع أدبي ظهر في منتصف الخمسينيات تقريباً، واستمر بحضوره الطاغي المراوغ المثير للجدل قد يخدم هذه البداية.لماذا ظهرت قصيدة النثر؟ هل ظهرت لأن الشكل الشعري السابق عليها استنفد كل أغراضه بحيث أصبح عاجزاً عن التعبير عن الحاجات المتجددة للمجتمع، وأصبحت هناك حاجة ماسة للتعبير من خلال نوع جديد، أو شكل يفي بهذه الحاجات؟ أم ظهرت كنتيجة طبيعية لتطور الأنواع الأدبية التي تبحث في كل وقت عن ضروب جديدة وأشكال تزيدها غناء، وهذا لا يرتبط بعجز الأشكال السابقة عليها أو قدرتها على التعبير، بمعنى آخر: هل ظهرت كطفرة جينية من رحم الأدب العربي، أم ظهرت نتيجة عوامل الوراثة الطبيعية التي يمكن من خلالها التنبؤ بشكل المولود الجديد. الذي يتأمل الطريقة التي ظهرت بها قصيدة النثر في منتصف الخمسينيات تقريباً يكتشف أن هناك عقلاً واعياً يخطط لها ويرسم ملامحها ويحاول تكريسها في الواقع الأدبي، وهو عقل لم يستنبطها، أو يستقرئها من التاريخ الأدبي العربي السابق عليها، وإن ادّعوا ذلك في بعض الأحيان، وتلمّسوا أصولاً لها في كتابات السابقين عليهم: «جبران» و«حسين عفيف»، أو في كتابات التراث، بل هو عقل ناقل لها من بيئتها الغربية - الفرنسية تحديداً - يحاول أن يزرعها في تربة لا يدري معها قدرتها على التكيف والاحتضان، والاستنبات، والنوع الأدبي قد يكون ملاكاً في بيئته الأصيلة، لكنه قد يتحول إلى شيطان حين ينقل إلى بيئة غريبة عليه. قبل ظهور قصيدة النثر بفترة وجيزة ظهر الشعر الحر في منتصف الأربعينيات تقريباً، وكان زلزالاً في تربة الشعر العربي أعاد تشكيل هذه التربة وجعلها أكثر خصوبة، على الرغم من هذه الحرب الضروس التي ووجه بها، ويعرف كثير منا تأشيرة العقاد الشهيرة حول إحدى قصائد الشعر الحر، حين كتب في ذيل القصيدة، وكان مسؤولاً عن لجنة الشعر فيما يسمى الآن المجلس الأعلى للثقافة «تحول إلى لجنة النثر». وبعد استقرار التربة ظهر أن هذا الشكل من الشعر قادر على التكيف مع المذاق التراثي للشعر العربي، وظهر في كثير من نماذجه المتألقة على أنه تطور طبيعي للشعر العربي، على الرغم من أن جذوره، تمتد خارج هذا الشعر، ولعل رصد ردود أفعال المتلقين في الأمسيات الشعرية ما يعزز هذا الرأي، وهي ردود أفعال تتسم بالإيجابية، وهو ما لم يحدث حتى الآن مع قصيدة النثر. التي لم تستطع أن تكون طرفاً فاعلاً في الأمسيات الشعرية، وهذا موضوع لا يجب النظر إليه على أنه هامش في إشكالية قصيدة النثر، فالمزاج العربي حتى الآن ما يزال مزاجاً شفاهياً، يطرب للكلمة المسموعة، ويتفاعل مع الإيقاع ذي النغمة العالية، ومسألة المزاج الكتابي الذي يتفاعل مع الأشياء من خلال العين لا الأذن تتطلب شروطاً حضارية في المتلقي العربي لا يبدو أنها قابلة للتحقيق في مدى قريب، كما أنه ليس مطلوباً لهذه الشروط أن تتحقق، فهذا المزاج الشفاهي للمتلقي العربي لم يتشكل في لحظة، كي يمكن التخلي عنه في لحظة أخرى، بل تشكل عبر مئات السنين ومن خلال تجارب في التلقي لا حصر لها، وقد أثبت هذا المزاج قدرة على التكيف مع الشخصية العربية بحيث عد أحد العناصر المهمة في تركيب هذه الشخصية، والنقلة التي يراد لها أن تتحقق من الشفاهية إلى الكتابية ليست نقلة نوعية في حقيقتها، بل إنها ربما تكون شديدة الوطأة على الشخصية العربية، وهذا أمر يصيب قصيدة النثر في مقتل، فهذه القصيدة تنتمي إلى المزاج الكتابي، بينما ينتمي متلقوها إلى المزاج الشفاهي، هذا التعارض يجعلها بلا متلق، أو يحصر متلقيها في نطاق محدود، ولا يفيد هنا اتهام المتلقي العربي بالقصور، فهو اتهام عنصري على أية حال، هناك شيء آخر يجعل هذه القصيدة بلا متلق، وهو موضوع الغموض فيها الذي يبدو وثيق الصلة بالطابع الكتابي لها، إن غموضها ليس من نوعية الغموض في الشعر القديم، الذي يكفي معه في بعض الأحيان تفكيك الدلالات بالمعنى البسيط لكلمة تفكيك، كي تحصل على ما تريد، وعملية التفكيك قد تقوم على المنطق أو التاريخ أو الأعراف أو الأديان، وفي كل الأحوال فإن هناك معالم تهديك في الطريق، أما غموض قصيدة النثر فهو من نوع مختلف، غموض يخاطب العقل ولا يجابهه كما يفعل الشعر القديم في كثير من الأحيان، بل يخاطب جوانب قارة في نفس المتلقي تحتاج إلى حساسية جديدة واستجابة من نوع مختلف، إن غموض قصيدة النثر جو عام فيها أوبنية من نوع مختلف - بحسب تعبير جون كوين - والمعنى فيها لا يختفي خلف الأكمة أو أمامها، فقد لا يكون هناك معنى أبداً في القصيدة، وهو عائق لا يمكن تجاهله أمام تحقيق استجابة صحيحة وطبيعية لقصيدة النثر في البيئة العربية.ارتبطت قصيدة النثر بالحداثة، والحداثة كلمة يتحسس الناس مسدساتهم حين يسمعونها، وعلى الرغم من ظهور إبداعات نسبت فيما بعد إلى قصيدة النثر أوائل القرن العشرين، فإن من روجوا لمصطلح قصيدة النثر وإبداعاتها هم الذين روجوا لتيار الحداثة في البيئة الأدبية العربية: أصحاب مجلة شعر وكتابها بدءاً من عام 1957م وروجوا لها على أنها الإنسان في المرحلة الأخيرة من تطور الكائنات، في الوقت الذي كانوا يروجون فيه للحداثة على أنها تحطيم للمقدسات والثوابت وكل الركائز التراثية التي يقوم عليها المجتمع، لقد قدم هؤلاء الحداثة في أقبح صورة لها، قدموها على أنها: إما أن تكون حداثياً أو متديناً. وشاع ذلك في كتاباتهم شيوعاً مخيفاً، ويمكن في هذا الصدد الاستشهاد بعشرات النصوص من كتاباتهم، «أنت الوشم الباقي» لعبدالمنعم رمضان مثال فج على ما نقول، وهي القصيدة التي أثارت ضجة هائلة في مصر بسبب جرأتها الدينية والجنسية عندما نشرت في مجلة إبداع المصرية أوائل التسعينيات. لا يمكن بالطبع محاكمة تيار الحداثة في هذه العجالة، فالحداثة ليست تياراً أدبيا فقط، وإنما هي توجه فكري، أو موقف متمرد من الحياة، يشمل كل ما يمكن تخيله من أنشطة يعنى بها الإنسان من سياسة واقتصاد وثقافة بكل جوانبها وغير ذلك، وهي في حاجة إلى إعادة تقديم إلى المجتمع العربي يكون مقبولاً لديه، وهو تقديم يمكن تصوره، مثلما فعل المجددون الأوائل حين نزعوا عن الرومانسية جانبها الإلحادي، وقدموها للمتلقي العربي تقديماً جميلاً.ارتبطت قصيدة النثر بهذه الصورة الكئيبة للحداثة، والنتيجة ليست في حاجة إلى توقع، فقد بدأ الناس يتحسسون مدافعهم وصواريخهم حين يسمعون كلمة «قصيدة النثر» وأنا أرجو الشعراء أن يقدموا لنا إحصاءات عن عدد قرائهم من واقع أرقام التوزيع لدواوينهم مقارنة بدواوين الشعراء الآخرين، ولن نطلب منهم الحديث عن طبيعة الاستجابة لقصائدهم في الندوات الشعرية، فنحن نعرفها جيداً. لا يحاول هذا الهجوم المبرر النيل من قصيدة النثر كتجربة في الإبداع بل يحاول وضعها في مكانها الصحيح، وهو مكان هامش في مسيرة الأدب العربي، إن إشكاليتها الأساسية جاءت من التعامل معها على أنها أحد أطوار الشعر العربي، وهي إشكالية أحدثها المصطلح ذاته، هذا المصطلح الذي جعل كثيرين يشحذون أسلحتهم مستبعدين إياها من حظيرة، الشعر لكني أظن أن هذه الإشكالية يمكن أن تحل تماماً إذا عوملت على أنها نوع أدبي قائم بذاته، يضاف إلى الأنواع الموجودة من قبل: الشعر والمسرح والرواية والقصة والمقال.. إلخ، نوع يعتمد على تراسل الأنواع الأدبية وغير الأدبية، يستفيد منها وقد يفيدها، ووفق هذا المنظور فإنها تحتاج إلى موقف نقدي آخر غير الذي نقفه الآن منها، موقف أكثر تسامحاً وتقبلاً لها، ولا استبعد تبعاً لذلك أن ينحت مصطلح آخر لها، فهذا المصطلح «قصيدة النثر» يغري بالخلاف، بل يجعله خلافاً ساخناً، مصطلح يحوي على ثنائية متعارضة، والجدل حوله يبدو أنه مما يناسب المزاج الشرقي، وهو استمرار للثنائيات التي شاعت في معاركنا القديمة أو الجديدة: الطبع والصنعة، القدماء والمحدثون، الأصالة والمعاصرة، زمن الشعر أم زمن الرواية، المحلية والعالمية، إنك في هذه الحالة لن تفكر كثيراً، لأنه لا اختيارات متعددة أمامك، إنك في كل حالة إما أن تنتسب إلى هذا الطرف أو ذاك، وفي حالة قصيدة النثر إما أن تنسبها إلى الشعر وكفى، أو إلى النثر وكفى، من أجل ذلك لا أتوقع للجدل حول قصيدة النثر أن ينتهي، كما لا أتوقع أن تثمر عنه آراء نقدية يمكن أن تضيف كثيراً إلى نظرية الأدب، إن الجدل حولها سيظل دائماً عوداً على بدء. (*) أستاذ النقد الأدبي المشارك كلية الآداب جامعة الملك سعود