تحمّس المتأدبون في فترة من الفترات لشيء سمّوه تفرغ الأديب، وبنوا رأيهم هذا على افتراض ان المبدع حينما يجري تفريغه من الهم الوظيفي ومن الدوام اليومي سوف يحقق انجازا فريدا بأن يتفرغ لعمله الابداعي من شعر أو رواية أو قصة، بل إن النقاد والدارسين أيضا طالبوا بذلك حتى «يتفرغوا» لأبحاثهم ودراساتهم، بعيدا عن مطاردة لقمة العيش في وظيفة بيروقراطية اجرائية لا تتيح لملكاتهم الفنية أن تتألق وتتجلى؛ لأن هذه الامكانات الخاصة لا تنطلق إلا في وقت «الفراغ» والصفاء الذهني الذي لا تتيحه الوظيفة. وقد بلغ من حماس بعضهم لهذه الفكرة ان صار يجهر بها في المنتديات الثقافية ويؤلب جمهوره من الأدباء على المطالبة بحقهم من التفريغ والفراغ ليتمكنوا من تحبير الدواوين وكتابةالقصص والروايات، واستثمروا عددا من الفرص التي حضرها مسؤولون ثقافيون ليطالبوا بهذا الحق المسلوب، وادعوا ان هذا الحق منح لكثير من المبدعين في العالم ويجب ألا نكون متخلفين في هذا الشأن، والملاحظ ان معظم النداءات الموجهة بهذا الشأن كانت من الأدباء أي المشتغلين بالحقل النظري المستند الى الاستدعاء والحكي، وأكثر المطالبين بذلك كانوا ممن لم يسجل لهم أي نشاط استثنائي يعيقه العمل الوظيفي، ولم يطبع معظمهم كتابا واحداً أو يحصل على جائزة أدبية أو يذكر له مشهد أو موقف. وحينما لم يجدوا استجابة تذكر انتهى الأمر بعدد من هؤلاء المستفرغين «طالبي التفرغ» الى استجداء أي غنيمة تذكر من هذه المعركة؛ فتحدث بعضهم عن مأوى يضمه مع عائلته لأنه مستأجر، وبعضهم سأل مساعدة في اعمار مسكنه المتعثر، ومنهم من طالب بمنح مالية «كاش»، والمبرر الذي يسوقونه لكل ذلك هو الأدب والفن والابداع الذي ينبغي أن يمنحهم الراحة والهدوء، وأن يختصر عليهم الوقت لكي يفرغوا أنفسهم للانتاج الأدبي. ولكن كيف صحت لهم هذه المطالبة ومن أين جاءت هذه الفكرة؟، الواقع ان عدداً من المطالبين لم يستند الى أساس علمي أو اجرائي اداري في هذا الموضوع، بل كانت الحجة التي استندوا اليها هي الاتكاء على الزعم بأن العمل يرهق المبدع ويعيق انتاجه، وأن التفرغ هو المحفز والداعم للابداع، غير أن آخرين نبهوا الى الدعم الذي يلقاه الأدباء المقارنون من مؤسسات عربية أو أجنبية، وأنهم إنما تقدموا في مجالهم لأنهم حصلوا على هذا التفرغ المزعوم، وهو أمر لم يستند الى اجراء وإنما الى ثقافة كاملة تحترم المبدعين وتظن أنهم مفيدون وأن ما يكتبونه يمكن ان يقرأ. هذه الرؤية الى العمل بوصفه معيقا للانتاج إنما ارتكزت على رغبة دفينة بالكسل والخمول وشعور متأصل بالعدمية واللاجدوى، وهو أمر غريزي استسلم له أولئك دون أن يكلفوا أنفسهم تقديم مبرر لمنحهم فرصة الكسل بينما يعمل الآخرون، ولو أن هذه الفكرة استندت الى شيء ذي قيمة لكانت فكرة برتراند راسل قد لاقت صدى منذ القرن الماضي، فقد طرح الفليسوف البريطاني اللطيف في مقالة مطولة عنوانها «في مدح الكسل» عام 1935م نظريته الداعية الى عدم العمل وتشجيع الفراغ، وملخص هذه النظرية يقول: ان المدنية الحديثة «في ذلك الحين» وفرت على الانسان وقته ولذا وجب عليه ان يجد وقت فراغ أكبر وألا يعبد العمل لذاته كما يفعل العبيد في القرون الوسطى، ورأى ان العمل الذي ينجز في العالم يزيد عما ينبغي انجازه بكثير، وأن ثمة ضرراً جسيماً ينجم عن الايمان بفضيلة العمل، ويقول:«إن أملي بعد قراءة هذه الصفحات أن يبدأ قادة جمعية الشبان المسيحيين حملة لاغراء الشباب الطيب بألا يفعل شيئاً..»، فالعالم الحديث - حسب راسل - يصيبه كثير من الأذى نتيجة الاعتقاد بفضيلة العمل، والسبيل الى السعادة والرفاهية ينحصر في الاقلال المنظم للعمل، فالمعتقدات البائدة بأن العمل فضيلة هي أوهام آن لها أن تزول في هذا العصر لأنها غدت عند الناس من البدهيات التي رسخها المنتفعون من العمل وهم الاقطاعيون الأغنياء، فنظام الجهد والمشقة واضطرار الانسان للعمل ساعات طويلة ظالم وغير مفيد للمجتمعات قبل الثورة الصناعية فكيف به الآن، ووسائل العلم الحديثة من شأنها ألا تجعل الفراغ حكراً على الأغنياء بل يمكن توزيعه على الجميع بالتساوي، فالفراغ ضرورة للحضارة، وفي الأزمنة السالفة كان الفراغ الذي تنعم به الأقلية ممكنا بفضل كدّ الأكثرية وكدحها وكان لكدحها قيمة لا لأن العمل شيء حسن؛ بل لأن الفراغ شيء حسن، ويمكن عن طريق وسائل العلم الحديثة توزيع الفراغ توزيعا عادلا دون إضرار بالحضارة، كما يمكن تخفيض قدر الجهد المطلوب لكي يحصل كل إنسان على ضرورات الحياة تخفيضا هائلاً. فلو أن ساعات العمل وفق النظرية «الراسلية» خفضت الى أربع ساعات لسار كل شيء على ما يرام ووفرت احتياجات البشر دون الحاجة الى أخلاق دولة العبيد بالكد والكدح بفائدة ودون فائدة، يمكن الاعتراف بواجب العمل في حدود أن يتقاضى الانسان بمقدار ما ينتج، فمن الظلم أن يستهلك انسان أكثر مما ينتج والعكس صحيح، فلو ان الكادح في سبيل الرزق عمل مدة أربع ساعات يوميا لكان هناك ما يكفي كل انسان ولما كانت هناك بطالة، وبدون جانب كبير من هذا الفراغ يجد الانسان نفسه محروما من أطايب هذه الحياة. لم يعد هناك داع لكي يعاني غالبية الناس من هذا الحرمان والتقشف السخيف الذي يحمل طابع التضحية وهو ما يجعلنا عادة نستمر في الإصرار على العمل بكميات ضخمة رغم ان الحاجة اليها لم تعد قائمة، ورأى راسل أن خلق جنة يسودها العمل القليل والفراغ العظيم هي من مهمة السلطات التي ينبغي ألا تفكر في إنتاج يفيض عن الحاجة. والعمل أربع ساعات يوميا ينبغي أن يؤهل الانسان للحصول على ضرورات الحياة ووسائل الراحة فيها وأن يستخدم بقية وقته بالطريقة التي يراها تناسبه، وراهن راسل على أن التعليم سيقدم للناس أفكارا حول قضاء وقت الفراغ في ذكاء، فلولا أن الأعمال الانسانية العظيمة وجدت وقت فراغ للتفكير فيها لما خرجت الانسانية من ربقة البربرية فالحضارة تدين للفراغ في الأساس لا للعمل. سيجد كل إنسان وسيلته لاشباع رغبته في عالم لا يضطر فيه أحد الى العمل أكثر من أربع ساعات يومياً، وستعم السعادة وفرحة الحياة بدلا من الأعصاب المتوترة والإرهاق وعسر الهضم، وبما أن التعب لن يصيب الناس في أوقات فراغهم فهم لن يلجأوا الى النوع السلبي من التسلية، وسيصبحون أقل ميلا للظلم والاضطهاد وللعدوان والنظرة الى الآخرين بعين الريبة والشك، وسيكونون أكثر رفقا ولينا في الطباع، وسيندثر تذوق الناس للحرب لهذا السبب لأنها ستكلف الجميع العمل الطويل المضني، إن الطبيعة الطيبة هي الصفة التي يحتاجها العالم أكثر من احتياجه الى شيء آخر، والطبيعة الطيبة ان هي إلا نتاج اليسر والطمأنينة لا نتاج حياة الكفاح الشاق، وقد مهدت وسائل الانتاج الحديثة امكانية توفير اليسر والطمأنينة للجميع غير ان الناس اختاروا لأنفسهم الارهاق للبعض والموت جوعا للبعض الآخر واستمروا يبذلون الجهد كما كان الحال قبل استخدام الآلات، لقد كانوا أغبياء في ذلك وليس من داع للإصرار على الغباوة للأبد. تلك كانت النظرية الراسلية التي دعت الى الاقلال قدر المستطاع من العمل والثناء على الكسل الذي قد يكون منتجا في نهاية المطاف، وهذه الدعوة لاشك مستطابة عند المستفرغين الذين سيصبحون راسليي الهوى لو تأملوا هذه النظرية ووعوها، ذلك ان مقالة راسل تتبنى فكرتهم وتنظر للعمل بوصفه مثبطاً ومعيقاً للنشاط الانساني الحر، ولكن الراسليين هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم عناء التعب على الفكرة أو قدح الذهن لجعلها مقبولة ولم يوجدوا آليات مناسبة لتمحيص المستحق من غيره، بل تأبط الجميع حجة العمل وصفة الانتاج الأدبي وطيّروا دعوتهم سالفة الذكر دون سوق المبررات المقبولة. كان يمكن للراسليين على سبيل المثال ألا يحتجوا بوجود مفرغين عرب أو أجانب؛ لأن لهم - الراسليين - خصوصية وتفردا مهما في هذا الشأن؛ فالجدب الابداعي هنا ليس مرده عدم التفرغ أو ضعف الموهبة فحسب وإنما وسائل بعث هذه المواهب واثارتها لا تكاد تتوفر، مقارنة بما هو متاح لقرنائهم، فهم مضطرون الى الاصطناع والتكلف بسبب المساحة التي يتحركون فيها، والحياة الاجتماعية المتكهربة،وهو ما سبب جفافاً صحراوياً شديداً في الموضوعات والأفكار التي تصلح محوراً لابداعهم. ولعله من الأجدى ألا ينتظر الراسليون ايجاد جهة معينة تلم شعث المبدعين والمثقفين سواء كانت وزارة أو هيئة أو جمعية ليطالبوها بالفراغ والتفريغ، وأن يفكروا في وسائل دعم مادية أو معنوية تكون أكثر نفعا وأعم أثراً، إذ يتبادر للذهن كما جرت العادة أن المسؤولية في تحديد من يستحق التفريغ يجب أن تقع على عاتق لجنة مكونة من ثقات في مجالات الابداع المختلفة لتعطي هذه اللجنة التفرغ لمن يستحقه ويفيد منه فعلا، غير أن اللجان أثبتت دوما أنها قابلة للاختراق ولهذا سيتسرب من شقوقها المحتالون وتجار المناسبات من المحسوبين على المبدعين، وهم سيغدون المنتفع الأول من هذه الميزة، فلابد من صرف النظر عن هذه الفكرة بشكلها الحالي وأن يصار الى الدعم العملي للمنتج الابداعي ذاته إذ هو مدار الدعم وحجته، ويتم ذلك بتبني النتاج وبعثه وشرائه وتوزيعه ومكافأة صاحبه حسب صداه وجودته الفنية.. وأية وسائل دعم أخرى تتجه للعمل ذاته. وسيظل المبدع الحقيقي يعتمر غطاء رأسه الأحمر «أو الأسود» صباحا ويعمل حتى قبيل العصر ليعود منهكاً، لا يجد الفراغ إلا في سيارته التي يكتب فيها قصائده، واللحظات التي يخطفها من الزمن ليرتب فيها فصول روايته أو ألوان لوحته، متمنيا لراسل وساعاته الأربع كل التوفيق، مستغنيا عن ساعات الكسل والجوائز والمكافآت بشعوره المطمئن بالرضا عن ذاته، بينما ينعم بالغنيمة محترفو التدجيل وطلاب المعاريض والوساطات في بيئة مشجعة تعد من الثقافة طباعة مجلات تنشر بالعامية خواطر المراهقين والصور الملونة للنوكى والأفاقين.