استقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قبل أيام شهر رمضان المبارك بالفرح والابتهاج، ونرجو لكل واحد منهم النيّة الصادقة، والعمل الصالح.. لأن أفضل الأعمال أدومها وإن قلّ. ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن حبب إليهم التسابق إلى الخيرات، وأن الله يثيبهم على ذلك جزاء وفاقاً، فشهر رمضان الذي فرضه الله على هذه الأمة، جاء هذا التشريع بنص قرآني كريم من سورة البقرة، فاستجابت أمة محمد صلى الله عليه وسلم: امتثالاً لأمر الله، وقدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء في هذين المصدرين الكريمين حثّ على أداء هذا الشهر حقه بالعبادة: البدنية والعقلية، والمسارعة فيه إلى الخيرات: صياماً وقياماً وبذلاً.. وهيأ الله بفضله وإحسانه لعباده المستجيبين في هذا الشهر فضائل عديدة، فلمن استجاب وعمل الأجر من الله، ولمن قصّر وخالف، الوعيد لمن أصرّ وعاند، وفسحة التوبة لمن قصّر وتساهل.. فشهر رمضان الذي أوجب الله على كل مسلم ومسلمة صيامه، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، هو ركن من أركان الإسلام الخمسة، ودعائم هذا الدين الذي يرتكز على أداء هذه الأركان، مثلما أن البيت يبنى على العمد التي يستقيم بها هذا البنيان، وينتفع بها. وهذا الشهر الذي خصّه الله بالصيام، يدل على مكانة الصيام، وفضله عند الله جلّ وعلا، كما جاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» بل إن خلوف فم الصائم، وهو ما يحصل فيه من رائحة نتيجة خلوّ المعدة ساعات النهار الطويلة، وما يصاحب الجوع من الظمأ الشديد في أيام الصيف خاصة. هذا الخلوف أحبّ إلى الله من رائحة المسك.. ولذا كان سلف هذه الأمة، من عهد الصحابة، ثم مَنْ بعدهم ممن وقرت في قلوبهم محبة هذا الشهر، وذاقت أحاسيسهم حلاوة الصيام، كانوا يفرحون بقدوم هذا الشهر، بل كانوا يدعون الله ستة أشهر بأن يبلغهم رمضان، فإذا أدركوه وصاموه، سألوا الله أن يتقبل منهم صيامهم ستة الشهور الأخرى. ولم يكونوا يقتصرون على الفرح أو الاستعداد بالمأكولات والمشروبات، بل فرحهم من منطلق حبهم للخير، لأن هذا الشهر ميدان للتسابق في الخيرات، والاجتهاد في العبادات: دعاء وقياماً، وصياماً وتوسعاً بالنفقة على الأهل والولد، وتلمساً للمحتاجين، وإفطاراً للصائمين.. لأن من فطّر فيه صائماً ولو على تمرة فله مثل أجره، من غير أن تنقص من أجر الصائم شيئاً. ومن فضائل رمضان العديدة: أن الله قد أنزل فيه القرآن الكريم، مما جعل علماء الإسلام، يحثّون فيه على قراءة القرآن بكثرة، كخصيصة من خصائصه، لأن للتلاوة مكانة في هذا الشهر، أكثر من غيره في بقية الشهور، وإن كانت تلاوة القرآن ذات مكانة في كل وقت، حتى لا يُهجر القرآن: لتدبره والتعبد به والعمل بما فيه. لكن تأتي ميزة رمضان: لأنه أُنزل فيه، ولأن جبريل عليه السلام كان يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فيه، كما كان المصطفى عليه الصلاة والسلام، يعرض القرآن من أوله إلى آخره في شهر رمضان، ولأن رمضان شهر فاضل، يقترن فيه فضل الزمان وفضل العبادة. * ليلة القدر خير من ألف شهر} *القدر: 1 - 3* فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خصّ أمته بهذا الفضل، وأن من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فهذه الليلة لمن اغتنمها بالعبادة والاحتساب، يعادل الأجر فيها ألف شهر، يعني أكثر من ثمانين عاماً.. وقليل من الأمة من يصل عمره ثمانين. وهذه الليلة في شهر رمضان كما جاءت بها الأحاديث الصحيحة، ومن حرص على قيام شهر رمضان، وخاصة العشر الأواخر، فإن الله جلّ وعلا بفضله وكرمه على عباده المستجيبين، يكتب لهم بقيام هذه الليلة عمل ألف شهر، {ذّلٌكّ فّضًلٍ اللهٌ يٍؤًتٌيهٌ مّن يّشّاءٍ} كما أن من فضل هذا الشهر: أن الله سبحانه يصفّد فيه مردة الشياطين والجن، حتى لا يوسوسوا للصائمين، ويفسدوا عليهم عباداتهم في هذا الموسم العظيم. كما أخبر بذلك الصادق الأمين، كما جاء الخبر بأن الصوم يضيِّق على الشيطان مجراه في جسم ابن آدم.. ذلك أن الصيام أمانة بين العبد وخالقه، وتقرّب إليه بما شرع سبحانه على عباده، وهذا من العمل الذي يحبّه الله جل وعلا من المخلوقين، كما جاء في الحديث القدسي: (وما تقرّب إليّ عبدي بأحبّ إليّ مما افترضته عليه). *، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمّى شهر رمضان شهر الصبر، وفي حديث آخر: قال: «الصوم نصف الصبر» خرّجه الترمذي. وفي فضل الصدقة في رمضان، جاء حديث سلمان الفارسي المرفوع: «من تطوع في رمضان بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه». كما جاء في حديث أنس، الذي رواه الترمذي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان». والعمرة في رمضان لها مكانة عالية عند الله، فقد جاء في الصحيحين حديث عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال: حجة معي». كما ورد حديث آخر: «بأن عمل الصائم مضاعف». هذه الفضائل لشهر رمضان، وما أعد الله لعباده الصائمين، حتى أن لهم باباً في الجنة لا يدخل منه غيرهم، يدعون إليه فإذا تكامل عددهم أقفل اسمه «الريّان» وقد جعل لرمضان في قلوب علماء السلف مكاناً لا يضاهى، وخصائص كثيرة العدد.. فكان إبراهيم النخعي - رحمه الله - يقول: صوم يوم من رمضان، أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره، بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفا، على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، التي بني عليها الإسلام، وقد يضاعف الثواب بأسباب أُخَر منها شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة، على أجور من قبلهم من الأمم. (لطائف المعارف 148 - 149). الجمل المغفّل: أورد أحمد بن عرب شاه في كتابه: فاكهة الخلفاء، ومفاكهة الظرفاء، حكايات على ألسنة الحيوانات والطيور، ذات مغزى عميق، وسنخفف من سجعه المملّ ما استطعنا، ومن ذلك قوله: كان جمّال فقير ذو عيال، له جمل يتعيش عليه هو وعياله، فرأى صلاحه في نقل الملح من المملحة، فكان يحرص على زيادة الثقل على الجمل طمعاً في زيادة المصلحة، إلى أن آل حال الجمل إلى الهزال، ففي بعض الأيام أرسله صاحبه إلى المرعى لعله ينشط ويسمن، وكان له أرنب صديق، فتوجه الجمل إليه، وشكا إليه ما آلت اليه حاله وما يقاسيه من عذاب صاحبه، وأن الملح قد قرّح جنبيه، وأورده الهزال فأعيته الحيلة، فتألم الأرنب لحاله، وتفكر في كيفية مساعدته، ثم قال: يا أبا أيوب - وهذا لقب الجمل - لقد فزت بالخلاص مما تعانيه، ووجدت لك حيلة فقال الجمل بتلهف: وما هو الحل؟. قال الأرنب: هل يوجد في طريقك مخاضة أو نهر؟. فقال: كثير. قال الأرنب: إذا مررت بالمخاضة فابرك فيها وتمرّغ، واستمر فيها يا أبا أيوب، فإن الملح في الماء يذوب، وكرر هذه الحركة، التي تجد فيها راحتك والبركة لأن حملك يخفّ بالذوبان، أو يخففون عنك، فسرّ الجمل من نصيحة الأرنب. فلما حمَّله صاحبه كالعادة بالملح الثقيل، ووصل المخاضة برك فيها فضربوه فما تحرّك، وتحمّل الضرب حتى ذاب نصف الملح ثم نهض وسار كالعادة وهكذا استمر حتى أفقر صاحبه فأدرك الجمَّال هذه الحيلة ففكر في عقاب الجمل وعمد الى صوف منفوش وكبَّر حمله على الجمل، ثم ساق الجمل بهذا الحمل ودخل إلى الماء، فلما توسط فيه، بِرَك كالعادة، وتغافل عنه صاحبه، فتشرّب الصوف من الماء بما يملأ بركاً، ثم أراد النهوض فعجز، وقاسى من ذلك مالا يطاق، فكان في تدبيره تدميره، وساء مصيره. ثم قال المؤلف: وإنما أوردت هذا المثل عن الجمل، ليعلم الملك والحضَّار، أن العدو الغدّار والحسود المكار، يفتكر في أنواع الدواهي والبلايا، ويبذل في ذلك جهده وجده، فتارة تُدرك مكائده، وتارة يُغفل عن دواهيها، فلا يشعر إلا وقد تورط فيها. وعلى كل حال: لابد للشخص له وعليه من الاحتيال، وأمّا طلب الصلح وإرسال الهدايا من أعظم المصائب، وأكبر الرزايا، فإن ذلك يدل على عجزنا والخور الذي ينتابنا، ويجرِّئ علينا الغريب، ويذهب حُرمتنا عند القريب (ص146).